واشنطن – موسكو .. من الانخراط إلى الاحتواء

واشنطن – موسكو .. من الانخراط إلى الاحتواء

10 نوفمبر 2021
+ الخط -

مرّت العلاقات الأميركية الروسية بلحظات توافقٍ قصيرة، وبفترات خلاف مديدة على خلفية تمدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) نحو الحدود الغربية لروسيا، ونشر أجزاء من الدرع الصاروخية الأميركية على أراضي رومانيا وتشيكيا وتركيا، وأجزاء أخرى محمولة على ناقلات متحرّكة بمحاذاة الحدود الروسية.

شهدت العلاقات بين الدولتين بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه شهر عسل قصيرًا بانخراط الولايات المتحدة مع النظام الجديد الذي أسسه الرئيس الروسي، بوريس يلتسين، ودعمته سياسيا، حيث اعتبرته الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي، بما له من حقوق وعليه من التزامات، خصوصا لجهة انفراده بوراثة الترسانة النووية السوفييتية الضخمة، 6500 رأس نووي، وتشجيعه على التحوّل نحو الليبرالية واقتصاد السوق وتقديم خبرات إدارية ولوجستية لدفع عملية التحوّل.

لم تستمر لحظة التوافق طويلا في ضوء بدء تحولات جيوسياسية عاصفة، شهدتها دول أوروبا الشرقية التي أعلنت انحيازها للنموذج الغربي وتوجهها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والالتحاق بحلف شمال الأطلسي، وتوجه دول "الاتحاد" و"الحلف" إلى الاستجابة لهذه الرغبات، بإيجاد صيغة وسيطة تحت اسم "الشراكة من أجل السلام"، مهدت لانضمام 11 دولة من أوروبا الشرقية لـ "الاتحاد" و"الحلف"، واقتراب "الناتو"، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال أيام يلتسين الأخيرة في الحكم، من الحدود الروسية أكثر فأكثر؛ في تحوّل واضح من سياسة الانخراط إلى سياسة الاحتواء.

تبّنت روسيا استراتيجية مواجهة أساسها نزوع قومي روسي، هدفه إعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي

اعتبرت روسيا أن صيغة "الشراكة من أجل السلام" خدعة لتوسيع ساحة عمل "الناتو" وتطويقها عبر نقل بنية "الحلف" التحتية، القوات والقواعد والأسلحة النووية، إلى مواقع جديدة أكثر قربا من الأراضي الروسية. وهذا دفعها إلى رفض الصيغة، وإلى تبنّي استراتيجية مواجهة أساسها نزوع قومي روسي، هدفه إعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي. رؤية قائمة على "قوة الدولة" و"ضمان ولاء الكنيسة الأرثوذكسية" و"التمسّك بالقيم الثقافية العريقة"، وخطّة حازمة للتخلص من العواقب الوخيمة الناتجة عن تراجع القوة الروسية، واستراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودورها الإقليمي والدولي، حيث عملت على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفييتية السابقة، من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم ست دول، روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا. ودعت إلى تشكيل اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفييتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، كإطار موازٍ ومنافس للاتحاد الأوروبي، يمثل برأيها عالماً بديلاً قائما على رفض القيم الغربية، مبنيٍّا على تصوّر لا يسمح لأي دولة فيه بأن تصوغ سياساتها وتحدّد أطر مستقبلها منفردة، يقع تحت سيطرتها الكاملة. وأطلقت، مستفيدة من تحسّن سعر النفط والغاز، برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرّكين، الإقليمي والدولي، عبر تطوير أسلحتها النووية، بما في ذلك صواريخ صوتية، وجوية، ومنظومات الدفاع الصاروخي. وهذا أجّج الخلافات مع الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة. وقد وصلت العلاقة إلى مستويات متدنية خلال الهجوم الروسي على جورجيا عام 2008 واحتلالها جزءا من أراضيها وإقامة جمهوريتين مستقلتين: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وغزوها منطقة "الدونباس" شرقي أوكرانيا عام 2014، وإقامة جمهوريتين شعبيتين، لوغانسك ودونيتسك، تحت حمايتها، وضم شبه جزيرة القرم. برّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استيلاءه على شبه الجزيرة بأنه ردّ ضروري على "نشر الناتو البنية التحتية العسكرية على حدودنا".

اعتبرت روسيا صيغة "الشراكة من أجل السلام" خدعة لتوسيع ساحة عمل "الناتو" وتطويقها

وقد زادت العلاقات تأزّما على خلفية الكشف عن الهجمات الإلكترونية الروسية على الشركات والمؤسسات الأميركية وعلى مجريات الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 للتأثير على نتائجها وقطع الطريق على المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وقد ترتب على ذلك اعتبار وثائق الأمن القومي الأميركي المتتالية روسيا دولة عدوة تهدد المصالح الأميركية ولابد من ردعها واحتوائها، وتحوّل التعاون الأميركي الروسي، لا سيما في مجال الحد من التسلح، إلى شيء من الماضي.

يخضع التنافس القائم بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية لآليات عمل القوة العظمى، حيث تسعى القوة العظمى إلى تحويل قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية، والانخراط في تنافسٍ على الهيمنة والسيطرة وعدم السماح لأي قوة كبرى بأن تزداد قوة على حسابها، في لعبةٍ محصلتها صفرية، تدفعها إلى ذلك اعتباراتٌ بنيويةً راسخة، ما يعني استحالة تحاشي التدافع بسياسة ذكية. وقد برز التفوق الأميركي في أكثر من مجال، حيث عدد سكان الولايات المتحدة يفوق عدد سكان روسيا بضعفين ونصف الضعف، 336.898.000 مقابل 145.934.462، واقتصادها يفوق الاقتصاد الروسي بأكثر من عشرة أضعاف، 21.4 تريليون دولار في عام 2019 مقابل 1.687 تريليون دولار، وهما، السكان والثروة الوطنية، اللبنات الأساسية للقوة العسكرية، نقطة حرجة؛ وكعب آخيل، روسيا. ما دفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى تصعيد المشاعر القومية، أقوى محرّك سياسي في التاريخ، بتخويف الروس من الحصار والتطويق والتلويح باحتمال وقوع حربٍ عالميةٍ ثالثة لحشدهم حول سياسته؛ كي يتقبلوا تبعات التنافس وتخصيص مبالغ ضخمة للتسلّح على حساب احتياجاتهم المعيشية والخدمية، فالتكلفة المادية لسباق التسلّح باهظة، وتستدعي تضحياتٍ كبيرة، وإلى إجراء مناوراتٍ عسكرية لرفع جاهزية القوات الروسية، جديدها أخيرا مناورة بحرية على تدمير أهداف معادية في البحر الأسود يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وتدريبات بالذخيرة الحية، ضد أهدافٍ لعدو افتراضي، تشمل إطلاق صواريخ "كالبير" المجنّحة وصواريخ "إسكندر"، وصواريخ منظومات دفاع جوي، ومنظومات "بال" و"أوتيوس" الصاروخية الساحلية المضادّة للسفن، وتحليق قاذفات استراتيجية روسية (تو- 160) في دورياتٍ في منطقة القطب الشمالي والمحيط الهادئ وبحري بارنتس والنرويج، ومراقبة نشاط قطع بحرية وقاذفات استراتيجية أطلسية، واستحداث تشكيلاتٍ جديدةٍ في الجيش الروسي، ودخول صنوف أسلحة مطورة للخدمة، وإعادة توجيه صواريخ نووية نحو المدن الأوروبية والأميركية، والعمل على إضعاف الولايات المتحدة عبر تقويض الديمقراطية في العالم، والتحالف مع الأنظمة المناوئة لها مثل الصين وإيران، في استعراضٍ للقوة، وتوتير للمناخ الدولي لوضع التحالف الغربي تحت ضغطٍ دائمٍ لدفعه إلى القبول بطلباتٍ روسية تتعلق بدورها في النظام الدولي، وأخذ مصالحها بعين الاعتبار لدى معالجة المشكلات والملفات الساخنة وتقاسم النفوذ.

 بالغ الرئيس الروسي في استعراض عضلاته وفائض قوته بانخراطه في ملفات ساخنة في سورية وليبيا وفنزويلا ودول أفريقية

بالغ الرئيس الروسي في استعراض عضلاته وفائض قوته بانخراطه في ملفات ساخنة في سورية وليبيا وفنزويلا ودول أفريقية، مستخدما قوة هجينة، قوات نظامية وأخرى مرتزقة، مجموعة فاغنر، وضغطه المتواصل على دول البلطيق ورومانيا وبلغاريا للتأثير على سياساتها، والعمل على منع أوكرانيا وجورجيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ما رفع درجة سخونة التنافس والمواجهة مع دول التحالف الغربي، والدخول في عملية عض أصابع متصاعدة رد عليها الحلف، برفعه عدد مناوراته قرب الحدود الروسية في الأعوام الخمسة الأخيرة إلى 90 مناورة في العام الواحد، مع زيادة عدد القوات المشاركة فيها إلى مائة وستين ألف جندي، وإجراء مناورات بحرية في البحر الأسود على مقربةٍ من شبه جزيرة القرم بدءا من 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بمشاركة الأسطول السادس الأميركي، حيث بات البحر الأسود جزءاً من منطقة عمليات هذا الأسطول، مع توجّه أميركي إلى إقامة قواعد بحرية في رومانيا وبلغاريا عضوتي "الحلف" اللتين تمتلكان سواحل طويلة على شاطئ البحر الأسود الشمالية الغربية، جزءا من خطة تعطي البحر الأسود دورا خاصا في احتواء روسيا، وتشجيع أوكرانيا وجورجيا على الالتحاق بـ "الحلف"، فـ "الطريق إلى الناتو مفتوح دائماً أمام كييف وتبليسي"، كما صرح وزير الدفاع الأميركي، الجنرال لويد أوستن، وتلويح وزيرة الدفاع الألمانية، إنغريد كرامب كارينباور، بإمكانية استخدام أسلحة نووية لردع روسيا في منطقتي البلطيق والبحر الأسود، وقول الكاتب ديفيد إكس في مقالة له نشرتها مجلة فوربس، الأميركية، "إن القاذفات الاستراتيجية الأميركية، بي ـ 1 بي لانسر، يمكنها التعامل بسرعة مع مجموعة سفن الأسطول الروسي في البحر الأسود وتدميرها. وإطلاق حربٍ باردةٍ بين الطرفين أساسها سباق تسلح، وهي معركة خطرة على روسيا في ضوء تخلفها عن الولايات المتحدة في معظم مقاييس التطور العلمي والتقني، ورجحان قدرات التحالف الغربي، وانخراطها في تنافسٍ صامتٍ مع الصين، على الرغم مما يجمعهما من مشتركاتٍ ضد التحالف الغربي، وتبادلهما الدعم الفني والمادي لموازنة الضغط الغربي، وتركيز مواردهما على التنافس مع الولايات المتحدة، بدلاً من التنافس مع بعضهما بعضا، حيث تخشى روسيا أن تجد نفسها محاطةً بنفوذ صيني في آسيا وشرق وجنوب شرقي أوروبا والقطب الشمالي. ما دفع الرئيس الروسي إلى الشكوى من سعي الولايات المتحدة إلى احتواء روسيا وترك الصين، ما سيجعل احتواءها لاحقا أكثر خطورة.

يُبقي الغموض في خطط القوى العظمى، مصحوبا بغياب آلية متفق عليها لمنع التصعيد، الخيارات مفتوحة، وعدم استبعاد أي احتمال على الإطلاق، فالأوضاع بين الطرفين بعيدة عن الاستقرار، مع ترجيح احتمال زيادة التوتر، خصوصا إذا سعت القيادة الأوكرانية، بدعم من الولايات المتحدة، إلى استعادة منطقة "الدونباس" والقضاء على الجمهوريتين الانفصاليتين هناك.