هل تُطوى تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس؟

هل تُطوى تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس؟

04 يوليو 2022
+ الخط -

تُثبت كل الوقائع الجارية في تونس أن الرئيس قيس سعيّد يربح جل الرهانات التي عقدها. منذ أشهر قليلة، تتالت جولاته التي ينتصر فيها على تردّده أولا، وعلى خصومه ثانيا، فالرجل يكتسح العتبات التي خلناها ممنوعة. ها هو يكتب دستورا جديدا، ويعيد نظاما رئاسويا، خلنا في تونس أننا ثرنا عليه وقبرناه إلى الأبد. يمنحه الدستور الجديد سلطات واسعة، تجاوزت حتى السلطات التي تمتع بها الرئيس بن علي، بل إن مختصين يقولون إنه حتى الزعيم بورقيبة كان قد قيّد نفسه في دستور 1959.
يفكّك الرئيس سعيّد مؤسسات الانتقال الديمقراطية الواحدة تلو الأخرى، من دون أن يثير ردود أفعال ذات أثر، حتى إذا وصل إلى مرحلة كتابة الدستور، ألغى كل الهيئات الدستورية، على غرار هيئة مكافحة الدستور، وهيئة مكافحة التعذيب وهيئة حماية المعطيات الخاصة وهيئة النفاذ الى المعلومات .. إلخ. أغلق بعضها من دون حتى اللجوء إلى مرسوم، ولا يزال وضع موظفيها وممتلكاتها مبهما، وهي التي تحتوى على كم هائل من المعطيات الخاصة، وكثير من وقائع تاريخ تونس الراهن تعلقت تحديدا بفترة الانتقال الديمقراطي... تصل إلى الرئيس، من حين إلى آخر، أصداء ردود الأفعال الرافضة هذا التمشّي، بما فيها سلطات الإمبراطور التي حازها، غير أنه لا يعبأ بها، لأنه لا أثر لها سوى تردّد خطابٍ، رغم مبدئيته، ظل بلا قدرة على قلب المعادلة أو تغيير قواعد اللعبة السياسية. كان الرئيس سعيّد يرد دوما على خصومه إن ما يقولونه "لا يساوي حبر ما كتب به"، فالمعارضة، على مبدئيتها تلك، لم تستطع أن تحشد الشارع وتجعله رقما في حسابها. ظلّت تحرّكاتها، رغم رمزيتها القوية التي وضعت حدا لوهم الإجماع حول الرئيس، محدودة وعاجزة عن تعبئة الشارع والضغط على الرئيس حتى يتراجع. على خلاف كل التوقعات، كان لهذه التحرّكات مفعول عكسي، حيث أوغل الرئيس في إجراءاته المنكلة بمسار الانتقال الديمقراطي، منقلبا على توجهاته ومناخه العام، حتى أن مشروع دستوره فقز على هذه العشرية ومحاها تماما، وكأن شللا قد أصاب ذاكرة الناس، فألغى من عمر هذا الانتقال الديمقراطي المنتكس عقدا بأكمله.

سيحكم الرئيس وفق دستور سيمنحه سلطات شرعية تضع حدا للاتهامات التي تصفه بأنه "منقلب على الدستور غير معترف به"

أثار هذا المشروع جدلا واسعا، ولا يمكن أن ننكر حالة الانقسام الحادّ لدى معارضي سعيّد ذاتهم، فبعضٌ يدعو إلى المقاطعة وهم أغلبية، وآخرون يدعون إلى المشاركة والتصويت بلا، في حين اختار الاتحاد العام التونسي للشغل، في موقف ملتبس ومفاجئ، أن يترك لقواعده حرية اتخاد القرار، في محاولة لتجنب الاصطدام بالرئاسة التي غدت مؤسّسة فائقة القوة.
وبقطع النظر عن البراهين والحجج التي يستعملها هذا الفريق أو ذاك، فإن مشروع الرئيس يترسخ على الأرض. سيظل للتونسيين دستور يرجعون إليه في نظامهم السياسي خلال نهاية شهر يونيو/ حزيران الحالي.
سيحكم الرئيس وفق دستور سيمنحه سلطات شرعية تضع حدا للاتهامات التي تصفه بأنه "منقلب على الدستور غير معترف به". يتخلّص من هذه التهمة التي ظلت تزعجه، على أمل أن يغدو دستور 2014 الذي ألغاه مجرّد ذكرى لا يحنّ إليها سوى من آمنوا به، رغم أنهم لم يعملوا بروحه ولم يكملوا بناءه.
يعوّل الرئيس على تحسّن الظروف الاقتصادية، حتى يشتري رضى الناس، فالرخاء الاقتصادي وصفة النسيان الحقيقي، وهو يعلم أن التونسيين، وإن قبلوا دستوره، فليس رغبة منهم في دستور بديل لما سبقه، بل رغبة في استقرار سياسي وتوحيد للسلطة وتجاوز للفوضى التي خيمت على المشهد السياسي، وطلبا للرفاه الاجتماعي.

ستكون المعارضة التونسية ابتداء من نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد أمام امتحان عسير في ظل المشهد السياسي

بقطع النظر عن تلك المناخات التي وصلت تونس إليها، فإن الاستفاء المرتقب لن يخفي أي مفاجأة، وسيصوّت أغلب من سيشارك بالموافقة. إنه استفتاء يخلو من أي تنافس حقيقي، ولن يصاحبه أي تشويق، وذلك للأسباب أعلاه، فعلاوة على ما تعلق بالنص القانوني الذي ينظم الاستفتاء ذاته، إذ لا ينصّ على النسب المشاركة الدنيا المعتمدة، أو نسب الموافقة على المقترح المعروض، خلا النص القانوني من أي اشارة إلى كل هذه المسائل الإجرائية، ما يجعل الاستفتاء هذا معلوم النتائج مسبقا، كما أن المقاطعة لن تغير من واقع الأمر شيئا على مستوى شرعيته القانونية، وأقصى ما يمكن أن تدركه انتظارات المعارضة هو حرمان الاستفتاء والدستور من المشروعية الأخلاقية، إذ لو كانت نسبة الإقبال على الاستفتاء ضعيفة، فإنها قد تبقي على دينامية المعارضة. وستكون هذه المعارضة التونسية ابتداء من نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد أمام امتحان عسير في ظل المشهد السياسي، فالنخب المعارضة لسعيّد والاستفتاء والدستور معا مدعوّة إلى بلورة استراتيجيات جديدة من أجل إعادة ترتيب الأولويات وتحديد الأهداف.
على الأرض، يوطّد سعيّد أركان مشروعه السياسي، وقد تشكل له مناخا مواتيا من أجل المضي في ما كان يؤمن به سابقا. لقد جرف تجربة الانتقال الديمقراطي، ومع ذلك سيظل النجاح السياسي المؤقت غير مرتهن إلى تمرير الاستفتاء فحسب، وإنما إلى قناعة الناس أن الدستور لم يعطهم حكاما جددا، بل حاجات وخدمات ظلوا محرومين منها. النظام مقبل على أن يشتري القبول السياسي بسلطة مفرطة في الزعامة والتسلطية، مقابل تلك الخدمات التي قد يمنحها للناس. ولكن يبدو أنه غير قادر على دفع التكلفة الاجتماعية والمالية لذلك. النتائج لن تحسم في المنظور القريب، يقتضي الأمر أن ننتظر خميرة التاريخ، تجنبا لوجباتٍ سريعة يبدو أنها خدعتنا سابقا، ونفخت عقولنا بأوهام تورّمت كثيرا.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.