هل الحلّ في تونس حلّ المجلس الأعلى للقضاء؟

هل الحلّ في تونس حلّ المجلس الأعلى للقضاء؟

12 فبراير 2022

قضاة ومواطنون يحتجون في العاصمة تونس على حل المجلس الأعلى للقضاء (10/2/2022/Getty)

+ الخط -

عاد النزاع على القضاء في تونس إلى واجهة أولويات السياسة والحكم والنفوذ، بعد إعلان الرئيس، قيس سعيّد، فجر الأحد 6 فبراير/ شباط الجاري، المتزامن مع الذكرى التاسعة لاغتيال الناشط شكري بلعيد، من مقر وزارة الداخلية، أن المجلس الأعلى للقضاء "أصبح في عداد الماضي من هذه اللحظة"، واعدا بإصدار مرسوم رئاسي ينهي أعمال المجلس وأردف قراره، الذي اكتفى بالتعبير عنه شفاهيا، بغلق مقرّ المجلس بواسطة قوّات الأمن، وفق البلاغ (البيان) الصادر عن لجنة الإعلام والاتصال بالمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 8 فبراير/ شباط 2022، ومنع موظفيه وأعضائه، من القضاة وغير القضاة، من الالتحاق بمكاتبهم ومزاولة وظائفهم وسلطتهم الممنوحة لهم بمقتضى نص الدستور التونسي لسنة 2014 والقانون عدد 34 لسنة 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء والقانون عدد 29 لسنة 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة. لم تفاجأ النخب السياسية والقانونية والمدنية وجلّ المشتغلين بقضايا الشأن العام بما أتاه سعيّد، الذي كان أصدر، يوم 19 يناير/ كانون الثاني 2022، مرسوما رئاسيا يضع حدّا للمنح والامتيازات المخوّلة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء، بعد أن جعل من القضاء عامة هدفا رئيسيا لـ "صواريخه" وهجماته المتتالية التي شكّلت فقرة قارّة في خطاباته في أثناء لقاء زوّاره ووزراء حكومته فرديا وجماعيا، وكلّما تحدّث إلى الرأي العام مهما كان محتوى ذلك الحديث.

يعتبر الرئيس قيس سعيد القضاء مصدر البلاء والفساد وكل المآسي التي تعيشها البلاد، ولا خلاص إلا بتطهيره وقيام قضاء الدولة بديلا لما يسمّيها دولة القضاة. ويرى أن إصلاح هذا الوضع السقيم يمرّ حتما عبر حلّ المجلس الأعلى للقضاء، المشرف على المؤسسة القضائية، صاحبة المسؤولية الأولى، فيما تردّت إليه أوضاعها، والاستعاضة عن ذلك بجعل القضاء مرفقا ووظيفة، حسب معجمية الرئيس نفسه، في دولةٍ واحدةٍ رئيسها واحد، له أن يكون صاحب الأمر والنهي، بما في ذلك الشأن القضائي، فقد عبّر رئيس الدولة بالتصريح عن رغبته في رئاسة النيابة العمومية، في خطاب إعلان الإجراءات الاستثنائية الذي قرّر فيه جمع أغلب السلطات ليلة 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، قبل أن يجتبيها لنفسه كليا عن طريق المرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر/ أيلول 2021 الذي عوّض جلّ أبواب الدستور التونسي. ولكن هذا التوجه الذي ينفي على المؤسسة القضائية استقلالها عن السلطة التنفيذية، وكونها سلطة قائمة بذاتها وليست مجرّد مرفق أو وظيفة، الذي قاومه بشدة المجتمعان، المدني الحقوقي والقضائي، وخصوصا جمعية القضاة التونسيين التي لاقى أعضاؤها الويلات والتنكيل من نظام الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، لرفضهم هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، وتصدّيهم لقضاء التعليمات والأوامر الفوقية، يصطدم بالإرث النظري الدستوري الذي يُلقّن لطلاب كليات القانون والحقوق منذ سنة 1748 تاريخ صدور كتاب شارل لويس سيكوندا دي مونتيسكو "روح القوانين"، وبالنصوص والقوانين المحلية والدولية التي أفرزتها التشريعات الوطنية والعالمية سنين طويلة، مثل الدستور التونسي لسنة 1959 الذي اعتبر في فصله عدد 53 أن "القضاة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون"، ونظيره لسنة 2014 الذي ينصّ في فصله عدد 102 أن "القضاء سلطة مستقلّة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقلّ لا سلطان عليه لغير القانون"، والقانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء الصادر سنة 2016 الذي جاء في فصله الأول "المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها"، والمبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن السلطة القضائية التي اعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 40/32 المؤرّخ في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1985 وعدد 40/ 146 المؤرخ في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1985، التي تؤكّد على أن الدولة "تكفل استقلال السلطة القضائية، وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية".

يعتبر قيس سعيّد القضاء مصدر البلاء والفساد وكل المآسي التي تعيشها البلاد، ولا خلاص إلا بتطهيره

حدّد الفصل عدد 112 من الدستور التونسي لسنة 2014 تركيبة المجلس الأعلى للقضاء الذي يتكوّن من "أربعة هياكل هي مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة. يتركّب كل هيكل من هذه الهياكل في ثلثيه من قضاة أغلبهم منتخبون وبقيتهم معينون بالصفة، وفي الثلث المتبقي من غير القضاة من المستقلين من ذوي الاختصاص، على أن تكون أغلبية هذه الهياكل من المنتخبين". وفصّل القانون عدد 34 لسنة 2016 القول في تركيبة الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء، التي تتكوّن من 45 عضوا يتوزّعون بالتساوي بين المجالس القضائية الثلاثة، بمن في ذلك ممثلو المهن ذات الصلة بالقضاء ولاسيما المحامون وعددهم 8 وأساتذة الجامعات المختصون في القانون والمحاسبة وعددهم 4 وخبيران محاسبان وعدل تنفيذ واحد، يقع انتخابهم شأنهم في ذلك شأن القضاة من غير أصحاب الصفة من قبل زملائهم. ولا بد من الإقرار بأن النصوص المنظمة للشأن القضائي التي تضمنها الدستور التونسي في باب السلطة القضائية وفي القانون عدد 34 لسنة 2016 وخاصة بعد تنقيحه سنة 2017 هي استجابة للصيغ التي تقدمت بها الهياكل القضائية وأطراف المجتمع المدني القضائي إلى المجلس الوطني التأسيسي (2011-2014) ومجلس نواب الشعب (2014-2019). ووقع تبنيها كليا أو جزئيا وصادقت عليها الجلسات العامة لكلا المجلسين، قبل أن تصدر في الجريدة الرسمية (الرائد الرسمي) للجمهورية التونسية.

ما ينسب للمجلس الأعلى للقضاء من تهاون أو تآمر أو عدم جدّية في معالجة قضايا الفساد والإرهاب في حدود مهامه وصلاحياته لا يمكن أن يبرّر للرئيس قيس سعيد قراره حلّ المجلس

وبناء على تلك النصوص، واستنادا إليها، عرفت تونس أول انتخابات للمجلس الأعلى للقضاء، وذلك يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وأحيلت رئاسته إلى أحد القضاة، كما تنص على ذلك الفقرة الثالثة من الفصل 112 من الدستور التونسي التي جاء فيها "ينتخب المجلس الأعلى للقضاء رئيسا له من بين أعضائه من القضاة الأعلى رتبة"، خلافا لما كان سائدا، فقد كان رئيس الجمهورية، في زمني حكم الرئيسين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، يعيّن أعضاء ذلك المجلس ويتولّى رئاسته بنفسه.

ولكن مسيرة المجلس الأعلى للقضاء في تجربته الجديدة لم تكن بمعزل عن الأيديولوجيا والسياسة، بالرغم مما هو محمولٌ على أعضائه من ضرورة عدم الانخراط في السياسة ممارسة وولاء، فآلية الانتخاب تعني التباري والتنافس بين توجّهاتٍ وأفكارٍ وتياراتٍ كانت دائما ذات خلفيات واختيارات سياسية، على الرغم من نفي المتبارين ذلك، ولم تكن أيضا في منأى عن الإسلام السياسي الذي جاء سنة 2011 فاتحا ومؤسسا لمشروعه ومقاربته في التمكين التي تقتضي التمكّن من مؤسسات الدولة، لتيسير عملية الحكم التي تأتي في أولويتها المؤسسة القضائية، ولذلك نُعت القضاء التونسي بـ "قضاء البحيري"، نسبة إلى القيادي في حركة النهضة، وزير العدل في حكومة حمادي الجبالي (2011- 2013)، نور الدين البحيري. ولم يستطع المجلس الأعلى للقضاء التخلص من هذه الصفة، واتهم في أكثر من مناسبة بأنه قضاء حركة النهضة، وأداتها التي تعتمدها لضرب خصومها، وتحمي بها نفسها وحلفاءها في الحكم من تهم الفساد المتراكم وشبهات جرائم الإرهاب والاغتيالات التي علقت بها عشر سنوات من حكمها تونس كلّيا أو جزئيا. وقد اعتبر رئيس الجمهورية رفض المجلس الأعلى للقضاء إبداء الرأي في مشروع مرسوم قانون يتعلّق بالصلح الجزائي مع المتورّطين في الجرائم الاقتصادية والمالية عنوان معركة لي ذراع، واجهتها المؤسسة القضائية وقواها الحقيقية قضاة محافظون من أعضاء المجلس، تستخدمهم تيارات الإسلام السياسي لتحقيق أغراض سياسية.

فوّت الرئيس على نفسه فرصة تفادي الصدام مع المجتمع المدني القضائي الذي يرى الجسم القضائي مستهدفا من السلطة التنفيذية

ولكن ما ينسب للمجلس الأعلى للقضاء من تهاون أو تآمر أو عدم جدّية في معالجة قضايا الفساد والإرهاب في حدود مهامه وصلاحياته لا يمكن أن يبرّر للرئيس قيس سعيد قراره حلّ المجلس، وذلك تفاديا للتسرّع والخلط بين المؤسسة الدستورية وإحدى السلطات الرئيسية في الدولة والأشخاص الذين يديرونها في هذه المرحلة. وكان على رئيس الجمهورية أن يطلب من مركز الدراسات القانونية والقضائية الراجع بالنظر إلى وزارة العدل تقريرا علميا عن تجربة المجلس القضائي خلال عهدته الأولى التي انطلقت سنة 2016 وتنتهي يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول من السنة الجارية. أو أن يستمع إلى الهيئة العلمية للمعهد الأعلى للقضاء لبلورة تصور إصلاحي يستشار فيه حكماء القضاء التونسي ورواده من أهل الفكر والقلم وعلماء القانون، خصوصا وأن الأشهر المتبقية في الدورة الحالية للمجلس محدودة جدا.

لقد فوّت الرئيس التونسي على نفسه فرصة تفادي الصدام مع المجتمع المدني القضائي الذي يرى الجسم القضائي مستهدفا من السلطة التنفيذية التي يحتكرها رئيس الجمهورية، ما جعله يدخل في سلسلة من الإضرابات والاحتجاجات، مسنودا بالمجتمعين، الأكاديمي (عمداء وأساتذة قانون) والمدني وجمعياته الحقوقية، مثل نقابة الصحافيين التونسيين و"محامون بدون حدود"، والحيلولة دون تدخل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجموعة السبع عن طريق وزراء خارجيتهم ووسائل إعلامهم وسفرائهم في الشأن الوطني التونسي، من بوابة الدفاع على السلطة القضائية، وعلى الديمقراطية التونسية، قبل أن يتراجع عن موقفه في أثناء لقائه وزيرة العدل، الأربعاء 9 فبراير/ شباط الجاري، والتي أعلنت في نقطة إعلامية من قصر الرئاسة بقرطاج أن رئيس الجمهورية قرّر أن يحافظ على المجلس الأعلى للقضاء، لكنه سيعرض مرسوما على مجلس الوزراء لإعادة تنظيمه، ثم يتراجع مرّة أخرى، ليعلن في مجلس الوزراء، المنعقد الخميس 10 فبراير/ شباط الجاري، أنه سيحلّ المجلس بمرسوم، ويعوّضه بهيئة وقتية تشرف على القطاع القضائي، ما يدلّ على نوع من التخبط في اتخاذ القرارات المتعلقة بأحد أهم القطاعات في الدولة، وفي جميع الحالات فإن الحلّ لم يكن ألبتة في حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإنما في تغيير تركيبته بواسطة انتخاب القضاة ممثليهم في إطار النزاهة والشفافية، من أجل إصلاح شامل وعميق للنظام القضائي التونسي.