هجرة يهود أوكرانيا إلى فلسطين وانتهازية إسرائيل

هجرة يهود أوكرانيا إلى فلسطين والانتهازية الإسرائيلية

14 مارس 2022

أوكرانيون يهود في عاصمة مولدوفا قبل توجههم إلى إسرائيل (10/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تقدّر سلطات الاحتلال أنّ إسرائيل بصدد استقبال موجة هجرة كبيرة من اليهود الأوكرانيين، قد تصل إلى استيعاب عشرات الآلاف منهم، وفق ما يعرف بقانون العودة. وإذا كانت البيانات الإسرائيلية قد رصدت هجرة حوالي 52 ألف يهودي أوكراني من العام 2011 حتى 2021، ورصدت كذلك، وفق البيانات الرسمية، أنّ عدد اليهود الذين هاجروا من كلّ دول شرق أوروبا في عام 2021 بلغ 13 ألف يهودي، فإنّها تأمل، وفق توقعات وزيرة الداخلية الإسرائيلية إيليت شاكيد، أن يصل عدد المهاجرين من يهود أوكرانيا وروسيا والدول المجاورة لهما إلى مائة ألف أو مائتي ألف مهاجر خلال العامين المقبلين. لكنّ التقديرات، وفق ما كشفته صحيفة يديعوت أحرونوت، قد تتوقف عند حدود 20 ألفاً أو 30 ألف يهودي أوكراني، وهذا إحدى نتائج الحرب الدائرة. ولا تقتصر التطلعات في إسرائيل على يهود أوكرانيا وحدها، فثمّة توقعات إسرائيلية بأنّ الشهور المقبلة سوف تشهد قفزة حادّة في أعداد اليهود الراغبين في الهجرة من روسيا إلى إسرائيل، نتيجة الوضع الاقتصادي الذي يزداد صعوبة في روسيا؛ حتى أنّ الأسابيع الأخيرة قد شهدت ارتفاع عدد طلبات الهجرة بين اليهود الروس إلى حوالي 500 طلب يومياً.
تستفيد إسرائيل، إذاً، من هذه الحرب؛ خصوصاً إذا طال أمدها، ولم يتمكّن الروس من حسمها بالسرعة المطلوبة؛ فالتجربة السابقة في العام 2014، حينما استولى الروس على القرم، تظهر أنّ عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل حينها لم يكن كبيراً، وأنّ بعضهم احتاج إلى شهور أو سنوات لاتخاذ القرار النهائي بالهجرة، فإذا تأخر الحسم الروسي في الحرب الدائرة حالياً، وزادت مخاطر الحرب وكانت عودة الاستقرار مستبعدة، فذلك قد يسرّع من وتيرة هجرة اليهود الأوكرانيين.

إحساس بأنّ إسرائيل أمام فرصةٍ في الحرب الروسية على أوكرانيا تُحرز بها مكاسب جديدة، حالة يعيشها الإسرائيليون

ثمّة أمر آخر قد يعظّم هذه الاستفادة؛ أنّ المدن التي تتركّز فيها الحرب حالياً مثل دنيبرو وخاركيف وأوديسا والعاصمة كييف، وهي المدن الأربع الكبرى في أوكرانيا، هي نفسها مناطق تركز أكبر التجمعات اليهودية هناك، إذ يقدّر عدد اليهود في العاصمة بحوالي 50 ألف يهودي، ويصل عددهم إلى نحو 25 ألفاً في كلّ واحدةٍ من المدن الثلاث الأخرى، هذا فضلاً عن تجمّعات يهودية في مدن أخرى، مثل خيرسون، وجيتومير، وميكولايف وغيرها. وهذا سيعزّز بالطبع من حركة هجرة اليهود الأوكرانيين إلى إسرائيل، كلما طال أمد الحرب وتوسع نطاقها الجغرافي.
الإحساس إذاً بأنّ إسرائيل أمام فرصةٍ تُحرز بها مكاسب جديدة ليس مجرّد تكهنات صاحب المقال، بل هي حالة يعيشها الإسرائيليون، وعبّر عنها رئيس اللجنة المالية في الكنيست الإسرائيلي، أليكس كوشنير، بقوله: "نحن الآن في أزمة تؤثر على 250 ألف شخص، ينطبق عليهم قانون العودة، صحيح أنّنا إزاء واجبٍ نقوم به، لكنّها أيضاً فرصتنا".
تحاول إسرائيل أن تقدّم كلّ التسهيلات الممكنة من أجل اغتنام هذه الفرصة؛ بعض هذه التسهيلات تبدأها عند المعابر الحدودية مع أوكرانيا، إذ تتحدّث التقارير عن جهود كبيرة لقناصل إسرائيل خارج حدود أوكرانيا من أجل تسهيل إجراءات هؤلاء اليهود؛ حيث يتحرّك هؤلاء القناصل في وارسو وبودابست وبوخارست وتشيسناو، ويمنحون تأشيرات الهجرة، وتتلقى القنصليات الاستفسارات من يهود أوكرانيا المهتمين بالهجرة. ويوجد يومياً عشرات القناصل التابعين لوزارة الخارجية الإسرائيلية عند المعابر، وإنْ تنكِر وزارة الخارجية الإسرائيلية أن يكون هؤلاء القناصل مخوّلين بمساعدة يهود أوكرانيا، وأنّهم يعملون هناك فقط مع الإسرائيليين. أما بالنسبة لليهود غير الإسرائيليين فتجري إجراءاتهم بشكل غير رسمي عبر موظفي الوكالة اليهودية، إضافة إلى موظفي وحدة ناتيف (تأسّست بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي للربط بين الجمهوريات التي انفصلت عنه، من أجل العمل في ظروف مثل الظروف الحالية لإصدار تصاريح هجرة لليهود بسرعة، ولتقصير طريقهم إلى البلاد) وهؤلاء موجودون كذلك بشكل مكثف. والعجيب هنا أنّ وزيرتي الهجرة بنينا تامنو شيتيه، والداخلية إيليت شاكيد، قرّرتا إعطاء تسهيلات أكبر بإلغاء شرط تقديم شهادة حسن السير والسلوك، أو ما تعرف بشهادة النزاهة التي تتضمّن خلو السجل الشخصي من الجرائم والاعتداءات وخلافه.

يعتقد أن عملية "ضمان إسرائيل" ستكون عملية الهجرة الكبرى منذ هجرة كثير من يهود الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي

هناك تسهيلات أخرى تبدأ بمجرّد الوصول إلى الأراضي المحتلة، إذ يجري استقبال المهاجرين/ المستوطنين الجدد في احتفالات رسمية، وأحياناً على سلم الطائرة بمشاركة الوزيرة تامنو شيتيه بنفسها، التي علقت في مرّة بقولها: "رسالتنا إلى يهود أوكرانيا واضحة للغاية، إسرائيل ستظل دائماً بيتكم". وتسمح إسرائيل لهؤلاء المهاجرين/ المستوطنين بأن يختاروا بأنفسهم المناطق التي يقيمون فيها داخل الأراضي المحتلة؛ في الشمال أو الوسط أو الجنوب من بين خيارات متعدّدة تعرضها عليهم السلطات الإسرائيلية. وقرّرت وزارة الهجرة الاعتراف بهؤلاء لاجئين من مناطق حرب، وبالتالي سوف تقدّم لهم منحة مرّة واحدة تختلف قيمتها حسب الوضع؛ إضافة إلى مساعدة مالية أخرى تقدّم لهم باعتبارهم لاجئين، والحصول على بطاقة مهاجر، وبطاقة هوية مؤقتة، والتسجيل في التأمين الصحي، والانتقال المجاني إلى مكان الإقامة من مطار بن غوريون في تل أبيب، وتعليم مبادئ أولية للغة العبرية، والدعم النفسي، فضلاً عن وجبات ساخنة تقدم لهم يومياً من ميزانية الدولة. ولاستيعاب هؤلاء المهاجرين/ المستوطنين الجدد خصصت حوالي 12 ألف غرفة في الفنادق أو نزل الضيافة. وفي إشارة ضمنية لما تقوم به إسرائيل من كفالة اليهود الهاربين من أوكرانيا، فقد أطلقت على هذه العملية اسم "ضمان إسرائيل". والتي يعتقد أنها ستكون عملية الهجرة الكبرى منذ هجرة كثير من يهود الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي؛ حين وصل عدد المهاجرين إلى مئات الآلاف، نتيجة الظروف الاقتصادية الحادّة التي عانى منها الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حتى أصبح عدد اليهود ذوي الأصول الروسية في إسرائيل يقدر بنحو مليون روسي. وقد نشر موقع وزارة الهجرة الإسرائيلية أنّ عدد من جرى استقبالهم من يهود أوكرانيا المهاجرين حتى يوم 7 مارس/ آذار الحالي وصل إلى نحو 400 يهودي، ومؤكد أنّ هذا العدد قد زاد بضع مئات.

رسالة تنقلها إسرائيل إلى العالم أنّ اليهود لا ينتمون لأيّ وطن آخر، وعلى استعداد للهروب من البلدان التي يعيشون فيها، والتخلي عنها عند أول لحظة خطر

وقد دشّنت حركة "حبد" الدينية في كييف، بقيادة الحاخام يهوناتان بنيامين مركوفيتس، حملة لجمع التبرّعات من أجل إنقاذ يهود أوكرانيا تحت عنوان "لن نترك أي يهودي بمفرده"، مع إعلان دائم عن التبرّعات التي تم جمعها. وكان يفترض بالحملة التي تنظمها هذه الحركة هناك أن تكون موجّهة إلى مساعدة المجتمع، بغضّ النظر عن الانتماء الديني، بحكم أنّ هؤلاء اليهود مواطنون أوكرانيون، لكن توجيه الحملة، بهذا الشكل، يعكس حقيقة انفصال اليهود عن مجتمعات الدول التي يعيشون فيها، وأنّ اهتمامهم، في وقت الأزمات، لا يتعدى حدود جاليتهم اليهودية.
ومن ناحية أخرى، فكرة هروب اليهود من أوكرانيا بالهجرة إلى إسرائيل، وبحثهم عن ملجأ آمن، واستغلال إسرائيل هذا الظرف، ذلك كله يعدّ تعبيراً عن الأنانية والانتهازية في الوقت نفسه؛ فالمفترض تشجيع هؤلاء، أو القادرين منهم على الأقل، على مقاومة الغزو الروسي، بحكم أنّهم مواطنون أوكرانيون، إذا كانوا يشعرون بأنّ أوكرانيا بلدهم فعلاً. لكنّ الرسالة التي تنقلها إسرائيل إلى العالم أنّ اليهود لا ينتمون لأيّ وطن آخر، وأنّهم على استعداد للهروب من البلدان التي يعيشون فيها، والتخلي عنها عند أول لحظة خطر. وبهذا المعنى، لن يتمكّنوا أبداً من مغادرة الغيتو المعنوي.
مفارقة أخرى تعكس حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، أصحاب الأرض الحقيقيون؛ ففي وقت يُطرد فيه أصحاب الأرض من بيوتهم، ويُستولى على أراضيهم، وتقام المستوطنات الإسرائيلية على أنقاض البيوت الفلسطينية، يدعى فيه يهود أوكرانيا للعودة إلى الوطن، مثلما عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، في تغريدة له، من أجل مزيد من تغيير البنية الديمغرافية للأرض المحتلة. وبينما ينضم القادمون الجدد من أوكرانيا تحت عنوان ما يسمى "قانون العودة" إلى المستوطنين، يقرّ الكنيست قانوناً يمنع لمّ شمل الأسر الفلسطينية، ليمنع الفلسطينيين في غزة أو في الضفة الغربية أو غيرهما أن يجتمعوا بعائلاتهم الفلسطينية ممن يسكنون داخل الأراضي المحتلة من 1948.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.