Skip to main content
من يوقف عبث قيس سعيّد؟
خليل العناني

يقول الخبر إنّ القضاء التونسي أحال 19 شخصية سياسية، من بينها رؤساء حكومات وأحزاب ووزراء ونواب إلى المحكمة، بتهمة ارتكاب ما سميت "جرائم انتخابات". تضم القائمة معظم الشخصيات السياسية المعروفة في تونس، أبرزها رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة السابق ورئيس حزب "تحيا تونس" يوسف الشاهد، ووزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الحكومة السابق والقيادي السابق في "النهضة"، حمادي الجبالي، وزعيم حزب العمال، حمّة الهمامي، ووزير التعليم السابق ورئيس حزب الائتلاف الوطني، ناجي جلول، والرئيس السابق لحزب "تيار المحبة" وصاحب قناة "المستقلة" محمد الهاشمي الحامدي، ورئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، ورئيس حزب البديل ورئيس الحكومة السابق، مهدي جمعة، وعضو مجلس الشعب والقيادي في حزب "الوطد" اليساري، منجي الرحوي، ورئيس حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، لطفي المرايحي، ورئيس حزب "بني وطني" سعيد العايدي، وربيعة بن عمارة، وبالطبع الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، الموجود في الخارج.

هكذا مرة واحدة، تتم إحالة معظم معارضي الرئيس التونسي، قيّس سعيد إلى القضاء، وهو الذي تم استثناؤه من القائمة، مع أنّه أيضاً خاض الانتخابات الرئاسية، وكأنّه "الشريف الوحيد في المدينة"، بينما البقية مذنبون تجب معاقبتهم. في الوقت نفسه، يتحدّث سعيّد عن اقتراب إصداره مرسوماً رئاسياً من أجل إصلاح المجلس الأعلى للقضاء، في محاولة واضحة لإحكام سيطرته على السلطة القضائية، وتهديد القضاة الذين رفضوا انقلابه الشائن في 25 يوليو/ تموز، وتحدّثوا عنه بجرأة في وسائل الإعلام. وقبل أيام، جرى اختطاف وزير العدل الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة، نور الدين البحيري، والاعتداء عليه، وقد دخل الرجل العناية المركزة بعد توقفه عن أخذ الدواء يومين. وقبل أسبوعين، تم الحكم على المرزوقي بالسجن أربعة أعوام مع النفاذ، وذلك في مشهد عبثي بامتياز.

لم يعد الأمر يتعلق فقط بفشل التجربة العربية الوحيدة في المنطقة بعد الربيع العربي فحسب، وإنما أيضاً بتحوّل تونس إلى ديكتاتورية ناشئة بملامح فاشية، يقودها شخصٌ محدود الأفق

عندما قام سعيّد بانقلابه، اعتقد بعضهم أنّه يحاول بالفعل تصحيح الأوضاع، وإنقاذ البلاد مما سماها "الحالة الاستثنائية". لكن بعد مرور حوالي نصف عام على الانقلاب، اتّضحت نوايا الرجل الحقيقية، وأنّه ليس سوى ديكتاتور طامح في الهيمنة والسيطرة على البلاد والعباد. ولعلها من المفارقات المؤلمة أنّه عندما انتقدنا ما فعله سعيّد عشية انقلابه في يوليو/ تموز الماضي، واعتبرناه "انقلاباً" صريحاً، هاجمنا كثيرون لمجرّد أنّنا حذرنا من مغبّة تكرار السيناريو المصري الكئيب في تونس، بل اعتبرونا منحازين ضد الرجل لصالح حركة النهضة، في تكرار المعزوفة نفسها التي ردّدها مؤيدو عبد الفتاح السيسي عشية انقلابه في 3 يوليو/ تموز 2013. بل وصل الأمر ببعض من يسمّون القوى المدنية، أن يشتروا سردية سعيّد عن انقلابه، ويعتبروا أنّ ما يقوم به هو بالفعل إصلاح سياسي ودستوري، في حين أنّه، في الحقيقة، تخريب وتدمير للعملية السياسية في تونس. فكيف يُعقل أن يحتكر شخص كلّ الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية من دون محاسبة أو مساءلة من أحد، ثم يُقال إنّ هذا تصحيح للمسار؟ وكيف يُعقل أن يقوم سعيّد بالتهديد الصريح باستخدام القوة والعنف ضد كلّ من يعترض على قراراته، من دون أن يأخذ أحد تهديده بجدّية؟ بل كيف يمكن اعتبار احتقار سعيّد دستور الثورة التونسية، وسعيه منفرداً إلى تغيير هذا الدستور، وتغيير النظام السياسي في تونس، كي يشبع طموحاته السلطوية باستعادة النظام الرئاسي الديكاتوري، من دون أن يكون هذا انقلاباً صريحاً مكتمل الأركان؟

كثيراً ما تباهى الباحثون والمراقبون بارتفاع الوعي السياسي لدى النخب والمواطنين في تونس، ووجود مجتمع مدني قوي، وطبقة وسطى عريضة، وحركة نسائية فاعلة، ونسبة تعليم مرتفعة... إلخ، من مؤشّرات نظرية "التحديث" التي تشترط توفر هذه الأمور من أجل نجاح الانتقال الديمقراطي. ولعلّ من القلائل الذين التفتوا إلى خداع هذه المؤشرات وعدم كفايتها في تفسير الانتقال الديمقراطي في الحالة العربية، بل وحذّروا من الركون إليها في تفسير الحالة التونسية، خصوصاً عند مقارنتها بالحالة المصرية، المفكر العربي عزمي بشارة، الذي أذكر أنّه في محاضرة له ألقاها قبل عام ونيف في باريس قد فنّد فيها فرضيات نظرية التحديث ومؤشراتها، مشيراً إلى عوامل أخرى قد تفسّر ما حدث في كلتا الحالتين، لعلّ أهمها التزام النخب السياسية بقواعد اللعبة الديمقراطية، وقدرتها على تجاوز خلافاتها الأيديولوجية في إطار عملية تفاوضية وحوار طويل المدى سابق على عملية التحول الديمقراطي نفسه.

لن يحمي الديمقراطية التونسية من عبث سعيّد ومن يدعمونه سوى التونسيين أنفسهم، وذلك إذا ما أرادوا أن تظل بلادهم الأمل

الآن، لم يعد الأمر يتعلق فقط بفشل التجربة العربية الوحيدة في المنطقة بعد الربيع العربي فحسب، وإنما أيضاً بتحوّل تونس إلى ديكتاتورية ناشئة بملامح فاشية، يقودها شخصٌ محدود الأفق، ركيك اللسان، محدود القدرات والمواهب، لا يؤمن بالدستور ولا بالبرلمان ولا بالمؤسسات السياسية ولا بالأحزاب ولا بالفصل بين السلطات. ولعلّ أسوأ ما في الأمر أنّ هذا التحوّل يحدث أمام أعيننا، ومن دون مواربة أو خجل أو مقاومة حقيقية من المجتمع التونسي. ولعلّ هذا الصمت هو ما يدفع سعيّد ويشجّعه علي المضي في مسعاه إلى الانقلاب على كلّ مكاسب الثورة التونسية، وذلك على نحو ما حدث، ولا يزال يحدُث، في الحالة المصرية بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي.

لن يوقف سعيّد سوى مدّ جماهيري حقيقي، وحركة شعبية واعية قادرة على تنظيم تظاهرات وإضرابات واعتصامات في كلّ الشوارع والمدن التونسية. ولن يردعه سوى عمل جبهوي منظّم وطويل المدى، تقوده القوى السياسية التي تؤمن حقاً بالديمقراطية، وتستشعر الخطر الذي يمثله مشروع سعيّد السلطوي، وتؤمن بأنّ هذا الخطر لا يهدّد فقط مكتسبات الثورة التونسية، خصوصاً على صعيد الحريات وحقوق الإنسان فحسب، لكن أيضاً، وهذا هو الأخطر، يهدّد تماسك الدولة والمجتمع التونسي، فقد علمتنا التجربة القصيرة للربيع العربي أنّه ليس لدى الديكتاتوريين العرب أيّ مانع من التضحية بالدولة والمجتمع، من أجل البقاء في السلطة بأيّ ثمن، وهو ما لا يجب أن يحدُث في تونس.

بكلمات أخرى، لن يحمي الديمقراطية التونسية من عبث سعيّد ومن يدعمونه سوى التونسيين أنفسهم، وذلك إذا ما أرادوا أن تظل بلادهم هي دوماً الأمل والإجابة لبقية العالم العربي.