من عمّان سلام إلى دمشق والقدس

من عمّان سلام إلى دمشق والقدس

12 اغسطس 2022

مشهد عام من عمّان عند الغروب (2019/ Getty)

+ الخط -

يصدح صوت المغنّي الفلسطيني عالياً، نسمعُه يترنم بأغنية تتحدّث كلماتها عن حدود سورية. كان يتدرّب استعداداً لأمسية فرقة البيادر القادمة من رام الله في مهرجان جرش. صوتُه الشجي يتوسّل تجاوز الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، ويرفع عالياً شكوى أهل هذه الأرض المعروفة بسورية الطبيعية، والذين لا يزالون يرفضون المعادلة الاستعمارية التي ولدت من رحمها إسرائيل، دولة الأبارتهايد المدجّج بالأسلحة الأميركية والأوروبية، وزاد في ذلك تحالف بعض عرب اليوم معها، من الذين أعمتهم الحسابات الضيقة عن رؤية المشروع الصهيوني التوسّعي، وهو يحاول اجتياح المنطقة على أجساد الفلسطينيين.

عمّان مدينة عربية بامتياز، نجد فيها العالم العربي بكل تجلياته، ولكننا نلمس ونحسّ أكثر نبض دمشق والقدس، ليس لأننا في أقرب نقطة جغرافية إلى هاتين المدينتين فقط، بل لأن للمدن الثلاث جذراً واحداً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً مشتركاً، ولا يمكن الفصل بينها، فما صنعه التاريخ لا تلغيه الجغرافيا. ومع أن مجرى التاريخ الحالي يسير في دروبٍ سياسيةٍ معقّدة، ويواجه أحداثاً تراجيدية، فإن المشترك بين أهل بلاد الشام يظلّ أقوى من الحدود. وحين يكون السوري في عمّان، فهو قريب إلى دمشق والقدس، وتسقط أمامه المسافة التي صنعها التاريخ والجغرافيا، لأن القدر المشترك لهذه المنطقة فوق كل الحسابات والسياسات وتجاوزها بمسافاتٍ كبيرة، ما يجعل من مسألة الرجوع إلى الوراء غير واردة.

أسبوع واحد لا يكفي للتعرّف إلى عمّان، وقد ذهب قسط منه في المشاركة بأماسي مهرجان جرش للثقافة والفنون. هذا المهرجان الذي عقد دورته السنوية السادسة والثلاثين وسط أزمة اقتصادية صعبة تمرّ بها المنطقة، التي تواجه تحدّياتٍ كبيرة بسبب الاحتلال في فلسطين، والنكبة في سورية، والمأزق السياسي في العراق، ولذلك لم يكن على السوية نفسها التي عرفها في دورات سابقة، إلا أنه مع ذلك بقي محطّة أساسية في البلد، تستقبل الكتّاب والفنانين المحليين والعرب والعالميين، وصار علامة مهمة على تميّز الأردن ثقافياً وإعلامياً، وله خصوصية تعكس الطابع العام لجهة التاريخ والحاضر، فمدينة جرش ليست بعيدة عن بصرى الشام وتدمر وبعلبك والقدس، فلكل حجر أثري في هذه الأرض نسب واحد في سائر المنطقة، مثلما أن لكل ياسمينة في عمّان عطر الشام، ولكل نخلة حضور الرافدين، ولكل مظهر تراثي أصالة فلسطين وتراثها.

تحضر في عمّان كل تقاطيع جغرافية فلسطين التاريخية، من مدن الضفة الغربية وحتى تلك المحتلة عام 1948، ونسمع كل لهجاتها، ونعيش الكثير من تفاصيلها مع القادمين من تحت الاحتلال، الذين يواجهون الآلة الإسرائيلية التي تعمل على مدار الوقت، من أجل تهجير هذا الشعب الثابت على أرضه بقوة الصبّار والزيتون، والذي يقدّم، بين فترة وأخرى، مفاجأة كبيرة تعيد الصراع إلى المربع الأول.

في أول زيارة لي لعمّان راودتني الرغبة في تجاوز الحدود لزيارة القدس وسائر فلسطين، كذلك لاحت لي فرصة تصريف قدرٍ من الحنين إلى دمشق وكل أرجاء سورية التي لم أرجع إليها منذ عام 1980. وفي الحالين، لم يكن المحرّك الأساسي القرب الجغرافي فقط، بل حضور فلسطين وسورية في الأردن، حتى إن الخيال حلّق بي، وأنا أتجوّل في شوارع عمّان القديمة، إلى التنزه في شوارع القدس العتيقة ودمشق القديمة. ولا تفسير لذلك سوى الإحساس بالانتماء إلى المكان، الذي يفجر قدراً غير محدود من الحنين.

سلامٌ من عمّان إلى دمشق والقدس. فهنا أحسستُ بأن الطريق إلى سورية وفلسطين ليست طويلة إلى ما لا نهاية كما تبدو، بل هي قريبة جداً، تشبه حلماً معلقاً على ظهر غيمةٍ على وشك المطر.

1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد