من سيصرخ أولاً؟

من سيصرخ أولاً؟

30 يوليو 2023
+ الخط -

قال الجيش الروسي في 24 يوليو/ تموز الجاري، إنه تقدم كيلومترين في الساعات الـ24 الأخيرة، شرقي أوكرانيا قرب ليمان التي تشكل مركزاً لسكك الحديد، بينما أكّدت كييف تقدمها أيضاً في المحور الجنوبي وسط تكبيد القوات الروسية خسائر كبيرة.

الأكيد أن الخسائر في صفوف الجانبين كبيرة، فالجانب الروسي يرى أن استمرار الدعم الغربي لكييف يُعد خطة استنزاف لموسكو، بينما يرى الجانب الأوكراني أن شهور القتال كشفت الوضع الحقيقي للجيش الروسي الذي تكبّد خسائر فادحة. هذا وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن في لقائه نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في قصر كونستاتينوفسكي في سان بطرسبرغ، أن الخسائر في صفوف القوات المسلحة الأوكرانية تجاوزت الـ26 ألف شخص في الفترة الأخيرة من الهجوم المضاد.

تصريحات من هنا وأخبار تصدر من هناك، فلا حقيقة واضحة، بل هناك حربٌ نفسيةٌ يمارسها الفريقان بهدف "كيّ وعي" الخصم، وأخذه مذلولاً إلى طاولة المفاوضات. لم تبدأ الحرب كي تنتهي عن طريق المفاوضات، لأنّها تحمل مشاريع متناقضة، بين محور يريد تغيير النظام العالمي القائم ويزيل هيمنة الغرب فكراً ومنهجاً واقتصاداً وفريق يحرص على الحفاظ على هوية هذا النظام من خلال اتّباع سياسة "الاحتواء" للقوة الصاعدة المتمثلة في الاندفاعتين الروسية والصينية.

لم ينقطع الغرب طوال 17 شهراً عن الحديث عن خسائر روسيا؛ فمجلس الأمن القومي الأميركي، على سبيل المثال، ذكر في بداية مايو/أيار الماضي خسائر روسية فاقت مائة ألف جندي، وأنّ 20 ألفاً منهم سقطوا منذ ديسمبر/ كانون الأول 2022، في حين ذكرت المخابرات النرويجية أنّ حصيلة الخسائر في صفوف الجيش الروسي بلغت 180 ألف قتيل وجريح.

تهدف روسيا إلى لعب أوراق ضغطها على الغرب، بهدف ثني الحكومات الغربية عن دعم كييف

لعبة "عضّ الأصابع" هي الأكثر حضوراً في ساحة الحرب الدائرة في أوكرانيا بين الدول المتقاتلة، حيث ينتظر كل محور أن يصرخ المحور الآخر أولًا. لهذا، يطرح السؤال نفسه "هل العالم بحاجة إلى حربٍ باردةٍ جديدة، وهل يمكن للعبة عضّ الأصابع التي تمارسها الولايات المتحدة وأوروبا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى أن تؤدّي إلى حربٍ كبرى، أو إلى استسلام أحد المحورين؟"

يبدو أنّ كلا الطرفين لا يرغب بالذهاب إلى حل آخر، خصوصاً الولايات المتحدة التي صعّدت من حربها الباردة مع الصين في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، لكنها لم تصل إلى حدّ تخطي الخطوط الحمر، ولا يزال رقص الـ"تانغو" الأميركي – الصيني على حافة الهاوية.

وصلت الحرب في أوكرانيا إلى نقطة "اللاعودة"، حيث أغلقت جميع أنواع الحلول، وباتت طريق العودة محفوفة بألغامٍ كالتي زرعت في مختلف نقاط الصراع في أوكرانيا وفي البحر الأسود. وإن التصعيد الأميركي بدا واضحًا، سيما بعدما قال البيت الأبيض إن أوكرانيا تستخدم القنابل العنقودية الأميركية ضدّ القوات الروسية، إذ أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن موسكو تحتفظ بحق الردّ. وقالت إن الرد الروسي سيكون قاسيًا على كييف، وإن الهجمات التي تستهدف البنى التحتية الروسية مدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا.

لم يزل الغرب متماسكاً رغم حالة "التذمر" التي تسمع بين حين وآخر، من المعترضين على استمرارية حكوماتهم في دعم كييف. فلا يفوّت الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب خطاباً، في مختلف خطاباته استعداداً للمعركة الرئاسية في عام 2024، إلّا ويتحدث عن خطته لإنهاء تلك الحرب على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.

لم تبدأ الحرب في أوكرانيا كي تنتهي عن طريق المفاوضات لأنها تحمل مشاريع متناقضة

وهناك حرب اقتصادية يرتكز عليها الغرب لتدمير اقتصاد روسيا تعتمد على فرض العقوبات. فبحسب صحيفة ذا تليغراف البريطانية "أسهمت العقوبات الغربية على موسكو، في تضاؤل الاحتياطيات النقدية بالعملات الأجنبية في روسيا، كما أنّ عائداتها من النفط قد تراجعت إلى النصف تقريباً، وخسرت روسيا قوتها العاملة بعد أن فرّ الآلاف من شبابها هرباً من التجنيد، كما اختفى الاستثمار الأجنبي وانخفضت قيمة العملة المحلية (الروبل). أما بالنسبة إلى التضخّم فارتفع بشكل كبير".

في المقابل، تهدف روسيا إلى لعب أوراق ضغطها على الغرب، بهدف ثني الحكومات الغربية عن دعم كييف. لهذا كانت ورقة قطع خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، بهدف شلّ الحياة الاجتماعية ووضع الشعب الأوروبي أمام الشتاء القارس. كذلك كان انسحابها من اتفاقية تصدير الحبوب برعاية تركيا عبر البحر الأسود بهدف تشكيل قوة ضغط لإحداث بلبلة في شأن الغذاء العالمي، ما يدفع إلى زعزعة الثقة عند الشعوب بأسس هذا النظام، والمطالبة بتغييره. لقد حذّر صندوق النقد الدولي من أنّ انسحاب روسيا من الاتفاقية قد يرفع أسعار الحبوب إلى حوالي 15%.

حرب ستخرج حتماً من سياسة "عضّ الأصابع" لأنّ المقاتلين لا "نية" لديهم لوقفها؛ ففي وقتٍ يجد الفريق المتمثل بالمحور الغربي أن من الضروري الإبقاء على دعم كييف لتحقيق مبتغاه، تعتقد روسيا أنّ استمرار حربها سيُحدث انقساماً بين دول شمال الأطلسي ما سيضعف وحدة الغرب. لهذا، بين اعتماد سياسة الصمود والتحايل عند كليهما، قد ينزلق العالم إلى حرب كبرى في غياب دور فعال للمؤسسات الدولية لضبط إيقاع الحرب، ومع انتشار التوترات الدولية، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي، والتجارب الصاروخية الباليستية لكوريا الشمالية التي تهدّد أمن دول الجوار، وعدم التوصل مع إيران إلى اتفاقية في ما خصّ نشاطها النووي، وإصرار إسرائيل على قيامها بمغامرة لتصدير أزماتها الداخلية.

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب