من خاف سلم

من خاف سلم

02 نوفمبر 2020
+ الخط -

قال المثل "من خاف سلم" .. حكمة بليغة من مفردتين، بدون فذلكة لغوية لا تحتملها مقولة مباشرة بسيطة أنتجها موروث شعبي فطري خبير. تنطوي على معادلة واضحة صريحة لا لبس فيها: إذا شئت السلامة، أيها الكائن الحي، فإن حمايتك الحقيقية تكمن في قوة إحساسك بالخوف، وهو ليس بالضرورة تعبيرا عن جبن أو تخاذل، بل استجابة طبيعية يرتّبها الشعور العميق بالارتباك وانعدام الحس بالطمأنينة والأمان الناجم عن الشعور بمداهمة خطر خارجي وشيك، من شأنه أن يلحق الأذى بنا. تتفاعل هذه المشاعر أيضا من مجرد التوهم بحدوث أمر يهدّد حياتنا، كما في عالم الأحلام والكوابيس، حين يقنعنا اللاوعي بحقيقة ما يحدث في الحلم، فنصحو مرتجفين مذعورين من هول الهلع. لذلك لا معنى للإحساس بالخزي أو محاولات الإنكار أو ادعاء بطولة إزاء أمر غريزي يحدث في سائر أنواع الكائنات الحية، وهو يتجاوز الحالة النفسية الذهنية المجرّدة ليتسبب في تغيير في الوظائف العضوية في الجسد، ويفضي إلى تغيير في السلوك المعتاد الروتيني، وينتج سلوكيات مغايرة، مثل الهروب والاختباء وأخذ الحيطة والحذر ومحاولة الوقاية المسبقة. 

وبحسب علم النفس، جرى تحديد خمسة أنواع رئيسية للخوف، تنبثق منها المخاوف الفرعية الصغيرة التي تتفاوت أعراضها من فرد إلى آخر: أولها الخوف من الانقراض وانعدام الوجود، بمعنى آخر أكثر دقة، الخوف من الموت، وهذا ما تصدّت له الأديان والأساطير التي قدمت حلولا شتى وسيناريوهات متقاربة عن حياة أخرى موعودة، سعيا إلى تعزية الإنسان ومواساته، في مواجهة فكرة مرعبة، تتمثل في مصير العدم والفراغ. من البديهي أن فكرة انقراض الكائنات البشرية تثير القلق الوجودي، وتنغّص على المرء حياته، وتعيقه من المضي قدما، إذا ما ظل أسير الإحساس بالعبث واللاجدوى. وثانيها الخوف من التشوه، بمعنى فقدان عضو من الجسم، أو تعرّضه للإصابة، ما يؤدي إلى عدم قدرته على القيام بوظائفه الطبيعية من دون مساعدة الغير. ثالثا، الخوف من فقدان الحرية، جرّاء الشلل الكلي أو العجز الناجم عن الشيخوخة أو الزج في السجن أو الخضوع لتحكّمٍ خارج عن الإرادة. رابعا، الخوف من الانفصال، كالهجر والرفض، بمعنى الخوف من الانعزال والوحدة ونبذ المجموع، ما يوقع الإنسان في الوحشة والألم والضيق. وأخيرا، الخوف من خدش صورة الأنا التي نبالغ في الحرص على كمالها ونقائها ومثاليتها، ونخشى عليها من التعرّض للمذلة أو العار أو تشويه السمعة التي قد تمس صورتها. 

وإذا ما تأملنا حالتنا الراهنة، حيث يواصل وباء كورونا اللعين اجتثاث أمننا واستقرارنا واطمئناننا، ويحيلنا إلى كائناتٍ قلقةٍ مرعوبة، تحسب خطوتها بدقة. عند تأمل هذا المشهد السوريالي الضاغط الخانق، نجد أن أنواع الخوف الرئيسية المشار إليها مجتمعة متحققة في نفوس معظم البشر. يثير الوباء مخاوفنا من الموت والتشويه والعجز والعزلة، ومن تعسّف السلطات الحاكمة وتجبّرها، وهي التي تجد في الوباء ذريعةً لتقييد الحريات وقطع الأرزاق. وأحيانا يعبر مصابون بكورونا عن مشاعر خزي وخجل، وخوف من رفض المجموع الذي سينظر إليهم بعين مرتابة، ويوجه إليهم ضمنا تهم قلة الوعي والإهمال والتسيب والاستهانة بالأرواح. وفيما تبدو كل الاقتراحات لمواجهة بعبع كورونا محض بيع للأوهام، لا تخلو من تنظيرٍ فائض، إلا إذا استثنينا أهمية اتباع التعليمات الصحية المقرّة عالميا من ارتداء الكمّامات، والتقيد بمتطلبات النظافة والتعقيم، وكذلك التباعد الاجتماعي، والحراك اليومي في حدّه الأدنى، وعدم الكفّ عن ترقب معجزة طبية ما، تضع حدّا لهذا الشقاء الكوني الذي بات فوق طاقة البشرية على الاحتمال.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.