من "البُردة" إلى "البشت" في أعظم مونديال

من "البُردة" إلى "البشت" في أعظم مونديال

23 ديسمبر 2022

ميسّي يرفع كأس العالم بين منتخب الأرجنتين في استاد لوسيل مرتدياً البشت (18/12/2022/Getty)

+ الخط -

نحتاج دراسات مسحية ومعمّقة لفهم مرحلة ما بعد مونديال قطر الذي وصفته "سي أن أن" بأنه "أعظم مونديال"، وهو الوصف نفسه الذي أطلقته عليه صحيفة الواشنطن بوست ووسائل إعلام عالمية أخرى. تلك العظمة أفقدت إعلاميين كثيرين عقولهم، أو كشفت جهلهم، كما بدا في حكاية "البشت" (البُردة بحسب الفصيح التاريخي) الذي ألبسه أمير قطر اللاعب الأرجنتيني ميسّي، فتلك الغلالة الشفافة شكّلت ستارة تليق بختام الفصل الأخير من مونديال ملحمي، لن يتوقف الحديث عنه عقب انتهائه. 
ولعل من أسباب اعتباره "أعظم" مونديال أنه، منذ اللحظة الأولى إلى التتويج، وُضع تحت المجهر، وبدت التفاصيل فيه أضخم من حجمها الطبيعي. ويعود جزء من هذه النظرة "المكبّرة" إلى النظرة الغربية الاستشراقية لما خصّ العرب والمسلمين، والشرق عموما، بقدر ما يعود إلى بلدٍ بحجم قطر لا يُقبل منه أن ينافس الكبار في المساحة والسكان، على رغم حجمها الاقتصادي، وتعبيرها عن أمةٍ لها حضورها التاريخي والحضاري والواقعي.

من أشهر القصص التاريخية للتكريم من خلال البُردة، العباءة، البشت، تكريم النبي عليه الصلاة والسلام كعب بن زهير

في لحظة الختام، تجلّى ذلك كله خلف غلالة البُردة التي كشفت حجم الجهل المركّب لدى الإعلام الغربي. وهو ما ذكّرنا بمقولة الفيلسوف العربي الجاحظ قبل أكثر من ألف عام "من جهل شيئا عاداه". لا نتحدث عن مؤثّرين متناثرين من العامّة والجهلة بقدر ما نتحدّث عن صحافةٍ وازنةٍ يقودها متعلمون. نظلم الاستشراق، عندما نصف نظرة الإعلام الغربي بالاستشراقية. كان المستشرقون علماء درسوا بعمق ثقافتنا وحقّقوا مخطوطاتنا بقدر ما حاولوا رؤيتنا وفق خيالهم. عبّرت النظرة الاستشراقية في مونديال قطر عن خيال مريض وجهل فاضح، ففي الثقافة العربية الإسلامية لا تكريم أكبر من أن تخلع بُردتك، عباءَتك، بشتك، على ضيفك وعلى من تُكرمه. 
ولعل من أشهر القصص التاريخية للتكريم من خلال البُردة، العباءة، البشت، تكريم النبي عليه الصلاة والسلام كعب بن زهير، عندما ألقى هذا الشاعر أمامه قصيدة "بانت سعاد..". من المهم أن يفهم الجهلة أن أمير قطر كرّم بطل كرة القدم ميسّي، عندما خلع عليه البُردة (البشت حسب التسمية الدارجة). وهو بذلك يعبر عن عمق حضاري يشمل أمة العرب والإسلام، والذين يزيد تعدادهم على المليار بعمق حضاري يتجاوز 14 قرنا. 
من المهم للجهلة أن يعرفوا أن النبي العربي كرّم ببُردته شاعرا، على قصيدة غزلية، وهي تقديرٌ للشعر، أرقى درجات الفن، وأن تكريم ميسّي بعد 14 قرنا بالطريقة نفسها يعكس عمقا حضاريا لا يعرفه الجهلة والسطحيون والمتعصّبون. وقد شكّلت كأس العالم فرصة لتعريف الجهلة، خصوصا في أوساط الإعلاميين والسياسيين والمؤثرين، بثقافتنا وقيمنا، ولذلك تباهى قوم ميسّي بلبس البشت، وأقبلوا على شرائه والتجوال به في قطر.

لو أن قطر نافقت الغرب وتخلت عن هويتها وقيمها لخسرت مرّتين، أمتها التي تنكّرت لها والغرب الذي لا يقبلها

ما أغاظ المتعصّبين أن البُردة لم تكن الملمح العربي الوحيد للبطولة، فالتعويذة من خلال "لعّيب" وعقاله، والشال القطري، أشعلت نار غضبهم من قبل. وفي الأثناء، أعلام فلسطين واتحاد العرب وراء منتخباتهم. ذلك (وغيره) زاد من قيمة المونديال ولم يقلّل منه. ولو أن قطر نافقت الغرب وتخلت عن هويتها وقيمها لخسرت مرّتين، أمتها التي تنكّرت لها والغرب الذي لا يقبلها. كتب الكثير عن نجاح المونديال. وبحسب اختصار "سي أن أن"، كان الأمر، كما بدا، أن العالم يستقر في محاولة لتلخيص كل شيء. ببساطة إنه "أفضل نهائي لكأس العالم على الإطلاق"، على ما غردّ العداء الأسرع في العالم، يوسين بولت، بجانب صوره، وهو يرتدي قميص الأرجنتين في استاد لوسيل. "نحن متحمّسون هنا. كانت مجرّد مباراة نهائية لا تُصدّق. كان من دواعي سروري أن أكون هنا. لم أر شيئًا كهذا أبدًا، ولا أعتقد أنني سأرى شيئًا كهذا مرّة أخرى. كان مذهلاً"، قال لاعب منتخب إنكلترا السابق، آلان شيرر، لـ"بي بي سي". وكتبت مجلة نيويوركر الأميركية، الليبرالية، التي نكلت باستضافة قطر، لما استسلمت في النهاية، "كانت هذه أفضل نهائيات لكأس العالم على الإطلاق".
ستكون المقارنة، في كأس العالم المقبل، في صالح قطر. سيتذكّر العالم أن الأميركان أقاموا جدارا بينهم وبين المكسيك، وقُتل مهاجرون حاولوا عبور الجدار. العمّال الذين بنوا الملاعب لن يحضروا المباريات. لن يتمكّن أحد من حضور مباراتين في اليوم نفسه. والمؤكد أن الفائز لن تُسبغ عليه بُردة، فتلك صارت مثل ميسّي لن تتكرر، ومثل مونديال قطر، مونديال العرب.

83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة