مناطق الظّل في الجزائر .. النجاح والفشل

مناطق الظّل في الجزائر .. النجاح والفشل

10 فبراير 2021

(حمزة بونوة)

+ الخط -

برز في الجزائر، بعد انتخابات الرّئاسة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، مصطلح لم نكن نسمع به، وانتشر إلى درجة أنّ الرّئاسة الجديدة عيّنت له مستشارا لدى رئيس الجمهورية يمسك بالملف، ويعمل على إزالة المناطق التي تشكل مؤشّرا على عدم التوازن في التنمية، بل انتشار الغبن الاقتصادي وغياب السياسة العامة تماما عن مناطق كثيرة في كل ربوع الجزائر. إنّه مصطلح "مناطق الظل"، بكلّ ما تحمله من معنى، تشير إلى مناطق واسعة تعيش على هامش التنمية بدون مرافق، بدون خدمات وبدون مقوّمات الحياة، في كلمة واحدة وهي ليست منطقة بعينها، ولا تقع في جهة دون أخرى، بل هي مناطق منها ما هو بعيد عن المدن الكبيرة، ومنها ما هو في قلب مدن كبرى وقريب من مناطق حضرية من المستحيل تصوّر أنّ التنمية تغيب فيها، أو أنّها منسيّة أو مغيبة من وعن مؤشّرات/ مقتضيات التطوّر وبرامج الدولة للتكفّل باحتياجات المواطن من مرافق وخدمات، وهي مناطق تغطّي جغرافية الجزائر بجهاتها الأربع.

تطرح مناطق الظّل إشكالية أكبر من السّياسة العامّة، لأنّ الرّئيس عبد المجيد تبّون نفسه رفع صوته، في لقاء له مع ولاة الجمهورية (محافظي المدن) متعجّبا من انتشار تلك المناطق، وحجم الغبن الذي انتشر فيها بعد مشاهدته شريطا عن واقع الظّل والتّهميش الحقيقيين اللّذين عانت منهما عيّنة ممّا تعرّف عليه، ومكتشفا، في اللّقاء نفسه، أنّ آلاف المناطق تعيش ما هو أفظع ممّا شاهده بدون أدنى مقوّمات العيش الكريم، ليستمرّ التلفزيون العمومي، في كل نشرة أخبار، منذ ذلك اللّقاء، في عرض صور لنماذج لم نكن لنصدّق أنّها في بلد نفطي وفي الجزائر التي حاول النّظام السّابق إيهام مواطنيها بأنهم يعيشون في أفضل بلد وفي أفضل المستويات، في حين أن الحقيقة المرّة مخيفة بواقعها وحقائقها بشأن الحياة الكريمة ومؤشّرات توفيرها للمواطن الجزائري.

هل المشكلة في طبيعة الحكم أم في الحوكمة؟ تلك هي الإشكالية التي على الجزائريين التوافق بشأنها

يطرح، هنا، سؤال محوري له صلة بالأموال التي جنتها الجزائر من الطفرة النفطية: ماذا فعلت بها، وفيما أُنفقت ولماذا بقي التخلّف، بل استفحل؟ وقد تُضاف إلى السؤال إشكاليات أكبر بالحديث عن مضمون ما قالته، قبل أيام، مذيعة النشرة الرئيسة في التلفزيون العمومي عن كاميرا تدخل مناطق ظل لأول مرة منذ الاستقلال بل، أيضا، ما سمعناه من بعض ممن يعيشون في تلك المناطق عن معاناةٍ لا يمكن وصفها من غياب أية معايير تسمح بالحياة الكريمة، ما يتيح رسم صورة أكبر لجغرافية الفقر وشموله فئات كبيرة، قد توحي بأنّ نسبة من هم في خط الفقر أكبر بكثير مما تذكره الأخبار والتقارير، وبأن السياسات العامة للتنمية، منذ الاستقلال، باءت بالفشل، ليكون التّشخيص واقعيا ينتهي إلى نتيجتين: تغييب تلك المؤشرات التنموية عن تلك المناطق، وتداعيات ذلك على المسؤولية التي على بعضهم تحمّلها، إضافة إلى وجوب تقييم فاتورة ذلك الفشل من فساد وفرص تنمية تم تضييعها.

قرّرت السلطة، وفق ذلك التّشخيص، توجيه الاهتمام إلى تلك المناطق بإحصاء الاحتياجات، ملاحظة النّقائص وتوفير المال اللازم لتجسيد معادلة رفع الغبن. ولكن هل تكفي تلك القرارات، أم أنّ العمل يجب أن يتوجّه إلى ما هو أكبر بالإعلان عن فشل نموذج بناء الدولة والاقتصاد الذي تمّ إتّباعه منذ الاستقلال، ووجوب توفّر توافق وطني يشمل كلّ الجزائر وفئات المجتمع فيها، للاعتراف بالواقع، ثم تخطيط توافقي لمشروع إعادة البناء، وعلى الأصعدة كافة، بعيدا عن سياسات الترقيع التي لم تفد في شيء، ولن تكون الرافعة للغبن الذي عايشته وتعيشه تلك المناطق وبقية فئات الجزائريين.

هل المشكلة في طبيعة الحكم أم في الحوكمة؟ تلك هي الإشكالية التي على الجزائريين التوافق بشأنها، لأنّ الحوكمة التي تشير إلى معايير التسيير لمعالجة المشكلات، أو إيجاد حل لمعادلة الاحتياجات/ الموارد، تقع على عاتق من يقرّر من أجهزة ومؤسسات لم تتوصل إلى حل تلك المشكلات، بل حتى مع توفر المال، بالنظر إلى الطفرة النفطية، لم تصل الأموال إلى تقليص الفجوة بين طرفي المعادلة المذكورة، لتبقى الاحتياجات هي نفسها ويرتفع صوت المواطن، دوما، وبمقاربات عدّة، منها الاحتجاج، بالتنديد، من عدم توصله إلى إشباعها بل، أحيانا عدم وصولها إليه تماما، في حين أنّ الخطاب الرّسمي، في السّابق، كان يوهمنا بأن التنمية موجودة، وبأن الاحتياجات تقلّصت بسبب تكفل الدّولة بها.

لعلّ تحدّيات الإشكالات الاقتصادية، السياسية والاستراتيجية، فرصة سانحة للتوافق على خطوط عريضة لمشروع جزائر أخرى

بالنّتيجة، فانّ طرفي تلك المشكلة، الحوكمة والحكم، كلاهما، يحتاجان إلى تقييم لعملهما ثم تقويم أخطائهما، وهو عين منهجية السياسة العامة، عبر العالم، إذ تقوم المؤسسات الرقابية، المنتخبة والتمثيلية لكل فئات الشعب، بتقييم السياسات العامة مع تتبّع عنصر حيوي، هو مقاربات صرف المال العام، لمعرفة هل الإشكالية في المخططات التي رُسمت لتجسيد التنمية، وهل المشكلة في نقص الموارد، بل هل المشكلة في عدم توفّر الكفاءة اللازمة لتجسيد تلك التنمية بمعاييرها؟ تتبع ذلك التقييم مرحلة استراتيجية هي التقويم والذي يتم سياسيا بالتغيير، أي بالإعلان عن الفشل، وتعيين المسؤولين عنه، ثم التوجّه إلى الدستور، للبحث عن حلول قد تكون انتخاباتٍ مبكرة، بعد تغيير حكومي شامل. وقد تتم، اقتصاديا، بالإعلان عن الفشل التام للمقاربة الاقتصادية لتوجيه الاختيار نحو استراتيجية اقتصادية أخرى، تكون ناجعة أكثر ورافعة لذلك الغبن.

المشكلة الأخرى تكمن، في الجزائر، في أن البرلمان، بغرفتيه، لا يقوم بعمله، لأنه، ليس تمثيليا، وهو ما حاول الدستور المعدّل، أخيرا، تصحيحه، بما احتواه من إجراءاتٍ لمنع المال الفاسد من الوصول إلى البرلمان، ثم بالتفكير في قانون عضوي جديد للانتخابات، يجري العمل لإقراره. ولكن على خلفية التناقض بين الرغبة في الإصلاح وتمكين البرلمان الحالي (بغرفتيه) من القيام بذلك، على الرغم من ارتفاع أصوات بوجوب حلّ الغرفة السفلى منه، لإجراء تشريعيات مبكرة، قد تكون في خريف العام الحالي، إذا توفرت الظّروف السّياسية والصحية الضرورية لذلك.

حاول النظام السابق إيهام الجزائريين بأنهم يعيشون في أفضل بلد وفي أفضل المستويات

سبقت الإشارة إلى وجوب التّوافق للخروج من تلك الإشكالات، وهو ما يجب العمل لإقراره استراتيجيا من خلال الاعتراف بأنّ حراك فبراير 2019 لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة تراكم تلك المشكلات، والتي تشكل مناطق الظل، مناطق الفقر وغياب المرافق والخدمات، الصورة الأمامية البارزة منها. ولعلّ ذلك التراكم للمشكلات، بوجهيه السياسي والاقتصادي، هو الدافع الأكبر لإيجاد أرضيةٍ للتوافق بين الجزائريين، من خلال مفاوضات، حوار أو لقاءات، لنسمها كما نريد. المهم أن نتفق على التشخيص، ثم نسارع إلى التوافق على وصفات للعلاج تخدم البلاد، وتخرجنا نحو فضاء واسع لتجسيد مشروع تبوؤ مكانة القوة الإقليمية وقيادة قاطرة المغرب الكبير والمنطقة الساحلية - الصحراوية مع لعب دور استراتيجي في غرب المتوسط، برمّته.

نهايةً، يستدعي رفع الغبن عن مناطق الظل مشروعا أوسع من مجرّد مرافق وخدمات، لأنّ الإشكالية أكبر، وطرفا معادلتها، الحوكمة والحكم، ينتظرهما رهان التوافق على إيجاد حل بل حلول للمستقبل، عاجله التوافق وآلياته القضاء على أسباب الفشل، وصولا إلى إقرار منهجيات للعمل، مراكزها الكفاءة، ونظافة اليد مع امتلاك القدرة على مواجهة كل المشكلات لصالح كل الجزائريين.

ونحن على مقربة من الذكرى الثّانية لحراك فبراير، المرجو أن تكون فرصة التوافق ما زالت متوفّرة إرادة وفعلا. ولدى كلّ الجزائريين، لأنّ ما يدعونا إلى ذلك أكبر وأوسع ممّا يؤدّي بنا إلى التفرّق. ولعلّ تحدّيات الإشكالات الاقتصادية، السياسية والاستراتيجية، فرصة سانحة للتوافق على خطوط عريضة لمشروع جزائر أخرى، جزائر المستقبل من دون مناطق ظل، ولا فشل، وبدون أحلام تقتلها قوارب الموت، بل جزائر كلّها أمل.