ملائكة "طالبان" تحوم فوق رؤوسنا

ملائكة "طالبان" تحوم فوق رؤوسنا

16 سبتمبر 2021

(إبراهيم جوابرة)

+ الخط -

"الثورة" الإسلامية الإيرانية سبقت حركة طالبان بإنزال النساء الإيرانيات في كَنَف الملالي. وبقيت، نسبياً، محدودة النطاق، بسبب أقلويتها المذهبية. ومع ذلك، كانت حركات إسلامية أخرى، خارج السلطة، وذات ثقل مذهبي سنّي، تجرّ النساء إلى أحضان الملالي والشيوخ. إذن، قبيل هذه، وبعيد تلك، كان يمكنك أن تلاحظ التراجع في حقوق النساء، على المستوى العملي، أكثر من الخطابي، أو البحثي. وكان ثمّة مقاومة للإثنين، بما تسمح به البيئات الضيقة والواسعة، وبما هو متوفر لديها من أدوات تفكيرٍ أو قولٍ أو نشر.

أما الآن، فقد اكتمل العقد، مع تحوّل "طالبان" إلى سلطةٍ حاكمة، صار للأصوليتَين، الشيعية والسنية، مرجعية ثابتة في دولةٍ، لها نموذجها الصاعد أو الثابت. وخلفهما امرأة ملفْلَفة بالسواد، كنعجة مرصودة للذبح أو للصفقات. طبعاً في قولي هذا شيء من المبالغة. ربما لتصوّر ما سيؤول إليه مصير النعجة هذه، لو بقيت على حالها من التسليم. ذلك أن عشرات الأحداث الصغيرة، غير المؤثرة على الأكبر منها، حصلت في الآونة الأخيرة. وهي من ثمار مناخ عام: صعود "طالبان" في أفغانستان، ورسوخ قوة سلطة الملالي الإيرانية. اخترتُ منها حدثَين قليلَين، مصري ولبناني:

في مصر، تذكير بفضيحة خالد يوسف العائدة إلى ثلاث سنوات: شريط فيديو يتسرّب إلى الملأ، وفيه خالد يوسف يمارس الجنس مع شابتَين، هما منى فاروق وشيماء الحاج، كان وعدهما بمنحهما أدواراً في أفلامه المقبلة. ومفهومٌ، وباعتراف الشابتين، انه هو الذي أعدّ العدّة لتصويرهما. وقتها كان للمخرج المشهور موقف معارض لتسليم جزيرتَي تيران وصنافير المصريتَين إلى العربية السعودية. هو نفسه الذي أخرج "تظاهرات الملايين" لتصعيد عبد الفتاح السيسي، ولطرد الإخوان المسلمين، فكان حنق السلطة منه شديداً، انتقمت منه أجهزتها بأن روَّجت الفيديو، وبأوسع نطاق. ما دفع يوسف للهروب إلى فرنسا. أما الشابتان، فأحيلتا إلى النيابة العامة التي وجهت لهما تهمة "التحريض على الفسق"، بعدما اعترفتا بـ"ممارسة الرذيلة" في الشريط، و"ممارسة الجنس الجماعي مع آخر".. فأصابتهما وصمة العار الأبدية. بلغتا الحضيض المعنوي. وقُضي نهائياً على مستقبلهما المهني، والشخصي أيضاً.

ثمّة تراجع في حقوق النساء، على المستوى العملي، أكثر من الخطابي، أو البحثي

الآن، عاد خالد يوسف إلى القاهرة، مكلّلا بأوراق غار وضعها على جبينه. ترحيبٌ يليق بأبطال عادوا ظافرين من جهاد. وكلمة واحدة تردّدت على لسان المخرج: إنه يبغض "الإخوان المسلمين"، وهذا فعل إيمانٍ تعويذي، يعني بالنسبة للحاكم أن المخرج عاد إلى بيت الطاعة، فكان ظهوره على الشاشات، محمولاً على الأكتاف، بانتصاره "على المصير"، وبمشاريع سينمائية جديدة وأشياء من هذا القبيل. ومن بين المستقبِلين المهلِّلين لعودة المخرج إلى حضن الوطن، قيادات من اليسار، ومن الثورة، وإعلاميون، وجميعهم معادون لـ"ظلامية الإخوان المسلمين"...

ثم مقال لكاتب "علماني"، "نقدي"، أو هكذا يقدّم نفسه. "يتعاطف" مع الشابتَين، بنوع من الشَفَقة، ثم يدينهما، ويبرئ المخرج بطل الفضيحة، بلغةٍ لا تخلو من الخبث "التنظيري"، إليكَ بعض مقاطعها: "سيكون من غير المنصف تحميل خالد يوسف ذنب ما جرى للشابتَين. يمكن لومه على خياراته السياسية (...). ربما يمكن لومه أيضاً على عودته (...) ، لقبوله تسوية (...) مقابل العودة لممارسة نشاطه الفني في مصر (...). لكن، ومرّة أخرى، لا يمكن لومه على ما لحق بشريكتَيه في الفيديو، فهذا سيكون بخساً لمأساتهما، عبر شخْصنة الإتهام، وحصره في شخصه، في حين إن ما يلزم هو الإشارة، بوضوح، إلى أن ما حدث لهما تقف وراءه منظومةٌ ذكوريةٌ شاملةٌ تتداخل مع منظومة القمع والفساد السياسيين. منظومة، في سياق مناوراتها الضحلة، وصراعاتها على إثبات النفوذ والولاء، لا ترى في النساء سوى أدواتٍ ووسائل، والأسوأ مجرّد خسائر جانبية". .. كما ترى، الكاتب "النقدي" ليس بحاجة إلى أن يكون "إخوان مسلمين" كي يقف ضد النساء .. إنه فقط يتنسّم نسيم العبودية، محْتمياً بالعبارات الفضْفاضة إياها، من نوع "منظومة ذكورية"، أو "منظومة القمع" أو "منظومة الفساد".

الوزيرات الست في الحكومة اللبنانية السابقة، يتغلب غيابهن على حضورهن

ونسيم العبودية ذاته يهب في الهواء اللبناني. وقد حصل شيء يشبهه، وإنْ بنغمة مختلفة، ففي الوقت الذي سقطت فيه النساء في بئر الداخل والحياة البدائية التي تستلزم جهودا إضافية خارقة في العمل المنزلي، فوق الجهد المطلوب لدراية الماء والكهرباء والفقر الطارئ ..

في هذه الوضعية التراجعية على مستوى الحياة اليومية، والنساء فيها أكثر المتضرِّرين، وبعد أكثر من سنةٍ من الأخذ والردّ، تخرج علينا التشكيلة الوزارية الجديدة، خالية من النساء، إلا واحدة، لحقيبة هامشية (تنمية إدارية). وحملة ليس معروفاً من أطلقها، ولكنها راجت ولقيت استحساناً وترويجاً في مواقع التواصل. موجّهة للوزيرات السابقات: "يلا (هيّا)... إلى المطبخ!".

علينا الاعتراف هنا بأن الوزيرات الست في الحكومة السابقة، يتغلب غيابهن على حضورهن. لا نعرف عنهن شيئاً يُذكر، حتى على مستوى الكلام المعْلوك الذي يجيده أربابهن. واحدةٌ فقط عُرفت بحسنها وجمالها، وطبيعة حقيبتها، الإعلام، فحفظنا صورتها. وزيرة واحدة في الحكومة الجديدة، بعد ست وزيرات في التي سبقتها...!

وإمعاناً بالتردّي والتراجع، لم تنْطق الجمعيات النسوية والنسائية بكلمةٍ واحدة. لا في أثناء العام الذي دار فيه تأليف الحكومة، ولا بعيده .. كما درجت أن تفعل سابقاً للمطالبة بـ"إشراك النساء"، في مجلس الوزراء الجاري تشكليه. أو للاحتجاج على "عدم إنصاف النساء في الحقائب الوزارية".

مع تحول "طالبان" إلى سلطةٍ حاكمة، صار للأصوليتَين، الشيعية والسنية، مرجعية ثابتة في دولةٍ، لها نموذجها الصاعد أو الثابت

ما سمحَ بمتابعة الدعوة إلى العودة إلى الأعمال المنزلية، بل الموت من أجلها، في تصريح الرجل الذي عُيِّن لتوه وزيراً للشؤون الاجتماعية، وبنبرة مؤنِّبة، قدّم "الحل": على اللبنانيات أن يقلّدن الصينيات. أن يسْتغنينَ عن حفاضات الأطفال الورقية، ويعُدن إلى "الحفاضات القماش". "كيف" تسأل المذيعة؟ فيشرح الوزير: بسيطة .. ان يغسلن حفاضة القماش، ينْشرنها، يكْوينها، ويطْوينها! هذه التراجعات "الضئيلة" تشكّل جواً، مناخاً، تأثيراته غير مرئية. أقوى من الاقتصاد، ومن الإرادة والرؤية. لكن مكوِّناته تتراكم شيئاً فشيئاً، لتصبح مشكلة عند النساء، هي تماماً عكس سابقتها من المشكلات: قبل هذا العهد الظلامي الجديد، المقنَّع، الزاحف، كان السؤال المطروح: كيف يمكن لمجتمعاتٍ متخلفةٍ أن تتطوّر حياة نسائها عن طريق قيم غربية يحملها الغازي الغربي، أو المهيمن الغربي، أو وكلاؤه المحليون، أو نخبة ثقافية تلقّت قيمها من الغرب، وتعلمت في مدارسه وأتْقنت مناهجه؟

أما الآن، فالسؤال هو: كيف يمكن لمجتمعاتٍ تلقّت نساؤها كل هذه التأثيرات الغربية العميقة، وتحولت حياتهن عن حياة أمهاتهن وجداتهن، ومنذ مائة عام، في المدرسة، خصوصا، حيث خرجت المتعلمات والطبيبات إلخ ... كيف يمكن أن تعدنَ شرقاً، ليس إلى قبلها مباشرة، إنما قبلها بمئات الأعوام؟