مقاطع من شمس الدين الكيلاني

مقاطع من شمس الدين الكيلاني

30 مايو 2023
+ الخط -

لو طالعتَ عناوين كتب أستاذنا وصديقنا الباحث السوري، شمس الدين الكيلاني، الذي توفّي أخيرا عن 79 عاما، وهي 20 كتابا، ستتأكّد من حقيقتين: أولاهما أنه أصدَرها في 20 عاما، (1997 -2017)، ما قد يعودُ إلى انصرافه متأخّرا بعض الشيء إلى البحث والدّرس التاريخي والثقافي بعد تجربةٍ في العمل السياسي المعارض والانتساب الحزبي، وهو الذي تعرّض للسجن في بلده (1980 – 1991)، ثم آثر أن يعكِف على إنتاج معرفةٍ معنيةٍ بحال الثقافة العربية، من حيث تداول مفاهيم الدولة وحقوق الإنسان والديمقراطية فيها، وأخرى معنيةٍ بصورة الآخر في هذه الثقافة، ولينكبّ على تحليل مجهوداتٍ مرجعيةٍ في غير شأنٍ لمفكّرين عربٍ بارزين، وخصوصا من أصحاب الإسهامات الخاصة في السؤال الديمقراطي والحقوقي وفي بناء الدولة (كتابه الأول كان في نقد فكر سمير أمين). وإلى هذين الأمرين وغيرِهما، اعتنى شغل الكيلاني بهذا السؤال، حضورا وغيابا في تاريخ سورية المعاصر. كما التفتت كتبٌ له إلى درس تصوّرات العرب عن غيرِهم (الشعوب السوداء، الصين والهند وجيرانهما) وتصوّرات بعضِهم عن بعضِهم (مواقف النخب السورية من لبنان، مثلا)، إضافة إلى كتابيْن عن القدس. 
الحقيقة الثانية أن شمس الدين الكيلاني ظلم نفسَه بعض الشيء، في فائض الزّهد الذي كان عليه، وفي ازوراره عن الإعلام والميديا، وقلّة اكتراثه بتعريف الجمهور العام بما كان يُنتج وينشُر. كما أن الإعلام الثقافي العربي، البليد في معظمه، لم يلتفت، كفايةً، إلى كل هذا النتاج، بالإضاءة عليه وتقديمه وبالنقد والمحاورة، بل والانتقاد والمخالفة أيضا. وها هو الرجل يتوفّاه الله، فتضنّ عليه الصحافات الثقافية العربية بما يلزم، في هذه المناسبة المُحزنة، من تذكيرٍ بمجهودِه البحثي والمعرفي الذي أزعم، هنا، من اطّلاع على قليلٍ منه، إنه يتّصف بجدّيةٍ وسوّيةٍ عاليتين في بسط الحقائق التاريخية، وفي تحليلها وربطها بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي الأكاديمية الموثوقة، عدا عن اللغة التي تتوسّل البساطة المضفّرة بالعمق، البعيدة عن المجازات وعن التعبيرات الاستعراضية العويصة.
صدرت الكتب الثلاثة الأخيرة لصاحبنا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "مدخل في الحياة السياسية السورية .. من تأسيس الكيان إلى الثورة" (2017) و"مفكّرون عرب معاصرون ... قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان" (2016) و"تحوّلات في مواقف النخب السورية في لبنان 1920 – 2011" (2012). ولا تزيّد في الزعم هنا إن في قراءتها مقادير طيّبة من الإفادة والمتعة، سيما وأن لا انحيازاتٍ أيديولوجية فيها، وأن سمْت الباحث المدقّق في الواقعة وفي مصادر التأشير إليها هو الأكثر وضوحا في عرض مادّة التناول والنقاش والإيضاح. ولربما الأكثر أهميةً في جهد صاحب هذه الكتب أنه، فيما اعتمد، غالبا، التحقيب التاريخي والتقصّي في الأفكار المطروحة اثنين من سبل التفكيك التحليلي الذي توخّاه في غير أمرٍ ناقشه وجاء عليه وطافَ فيه، فإنه أيضا ظلّ حريصا على الإحاطة بالسياقيْن السياسي والاجتماعي اللذيْن عبَرت فيهما أفكار المثقفين والمفكّرين التي درسها، وأطروحات أحزابٍ وكتلٍ سياسيةٍ جرى تداولها في هذه المسألة أو تلك. وفي الوُسع أن تُعدّ دراساته هذه عصيةً على التصنيف في حقل التاريخ الصرف أو الاجتماع السياسي، ذلك أنها عابرةٌ لهما وبينهما، فتتأسّى مثلا بالتاريخ المقارَن، ومشحونةٌ بالمسألة الثقافية المحضة، وتصدُر عن هاجس التطلّع إلى أفقٍ عربي آخر، إلى سورية أخرى، إلى لبنان آخر.
يُطلّ كتابه الأخير على ما شهده السوريون من تقاليد وتجارب ديمقراطية في تاريخهم المعاصر، ليؤكّد في هذا أهليّتهم لعبور الطريق إلى الديمقراطية، وينتهي بعد جولةٍ وافيةٍ في محطات حزبية وسياسية إلى أن حوليات الحياة السياسية السورية خلال قرن تؤكّد الجذور العميقة للرابطة الوطنية السياسية السورية. وينتهي كتابه ما قبل الأخير، وقد درَس وجيه كوثراني ومحمد عابد الجابري ورضوان السيد وبرهان غليون وعزمي بشارة وحسن حنفي وعبد الله العروي، إلى انفتاح الفكر العربي الحديث على الحداثة وما حملته من إعلاءٍ لشأن الفرد والجماعات، وما رتبت من حقوق إنسانية معا. وفي كتابه الأسبق، يأتي على كيفياتٍ تغدو فيها سورية جسرا للتلاقي والمساهم الفاعل في وضع حلول للمشكلات الإقليمية. ... وفي هذا كله وغيره تقع على ما قد يجوز وصفَها وصايا شمس الدين الكيلاني.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.