محمد جابر الأنصاري وانتحار الأنظمة

محمد جابر الأنصاري وانتحار الأنظمة

07 نوفمبر 2021
+ الخط -

لا أدري إذا كان محمد جابر الأنصاري ما زال مستشاراً ثقافيّاً لدى عاهل البحرين أم لا. الإجابة بـ"نعم" تعني الكثير، في الوقت الراهن بالتحديد، أعني في زمن "الاندلاق" الرسمي البحريني باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، لأنّه إن قبل البقاء بمنصبه، فذلك يعني أنّه أصبح جزءاً من هذا التطبيع، حتى وإن كان يشغل منصباً ثقافيّاً، ولعلّه أدرى مني بأخلاقيات السلطة العربية وسعيها إلى تسييس الثقافة، إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإلّا فإنّها تعمد إلى محاولة تقريب المثقفين البارزين منها، في سعيها المحموم إلى إسباغ شرعية ثقافية ما على تفرّدها واستبدادها و"تطبيعها" أيضاً، بعدما ضمنت سائر الشرعيات الأخرى.

والحال أنّني شعرت بالبؤس منذ تقلّد الأنصاري هذا المنصب، الذي كان أصغر من قامته بأميال، وكثيراً ما راودني إحساسٌ بالشفقة الممتزجة بالغضب كلما رأيته يلهث بصعوبة خلف الزعيم، سيما في جولاته "غير الثقافية" على الصحاري وبيوت الشعر. وتساءلت حينها ما الذي يمكن أن تضيفه مثل هذه الرسميات والبروتوكولات إلى صاحب "الفكر العربي وصراع الأضداد"... أتُراه يحاول الانسجام مع فلسفة "الأضداد" التي كتب عنها، مثلًا، أم أنه أراد معاينة "التأزم السياسي عند العرب .." وفق جزء من أحد عناوين مؤلفاته؟ غير أنني رجوت ألّا يكون الهدف إضافة جديدة لكتابه "انتحار المثقفين العرب" باعتبار أنّ ما يفعله نوع من الانتحار الثقافي.

ربما كنت قاسياً بعض الشيء على مفكرٍ يستهويني، غير أنّني فضّلت أن أبدأ بالقسوة، أولاً، ولأنّني أجد صعوبة كبيرة في تقبّل أي محنةٍ جديدةٍ لمثقف عربي من طراز محمد جابر الأنصاري ثانياً. ولعلّ ما دفعني إلى الكتابة عنه اليوم شعوري بأنّ هذا الرجل يعاني أزمة ذاتية عميقة بين أفكاره النهضوية التي كتب عنها كثيراً، سيما في توقه إلى البعث الحضاري للأمة، وقد جسّدها كتابه "تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها" وسعيه إلى إعادة اكتشاف ذاته نفسها، في خضمّ المأزق الذي وضعه فيه ساسة البحرين بتطبيعهم مع الكيان الصهيوني.

ولقد لمست هذه الأزمة التي يجد صعوبة في الإفصاح عنها، لأسبابٍ لا يعلمها غير الأنصاري نفسه، عندما قرّر أن يجمع بضع مقالاتٍ قديمة كان قد نشرها في دوريات وصحف عربية، وتناولت الشأن الإيراني في مجملها، في كتيب صغير الحجم، بعنون: "الخليج. إيران. العرب.. وجهة نظر خليجية" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، ويُبرز فيها خيبته من الموقف العربي حيال احتلال إيران جزراً عربية، غير أن المتمعّن في الكتاب يلمس أنّ الرجل ما لجأ إلى إصدار الكتيّب إلّا لأنّه ينطوي، أيضاً، على موقفٍ لا يحتمل اللبس من عداء الكاتب إسرائيل، حتى وإن كان العداء قديماً، بدليل أنّه لم يحذفه من متون المقالات، بل آثر أن يظهره أيضاً في كلمة الغلاف الخلفية، حين وردت في خاتمتها العبارة الآتية: "... كلّ ما أرجوه أن يكون هذا الجهد، الذي هو حصيلة معاناة مصير لقضية الخليج من قبل واحد من أبنائه، خطوة متواضعة أولى نحو اهتمام عربي واعٍ، وتحرّك عربي فعال في اتجاه أهم قضية عربية راهنة بعد فلسطين وخطر التوسّع الإسرائيلي، بل في اتجاه الجبهة الخلفية لمعركتنا المصيرية مع العدو الصهيوني".

في هذه العبارة الساطعة، يحدد الأنصاري موقفاً واضحاً من إسرائيل، فهو ما زال يعتبر القضية الفلسطينية قضيته الأولى، وإسرائيل عدوّاً، والمعركة معه مصيرية. وهذا موقفٌ يُحسب له، وإن كان مغلفاً بقضية أخرى أراهن أنّه لم يعد يعتقد بصحتها، بعدما اتضح الخيط الأبيض من الأسود، وتبدّى للجميع أنّ إيران لا تمثل خطراً "ثانياً" على الأمة، بل إسرائيل هي الخطر الأول والعاشر والألف، ولا يليها غير خطر أنظمة التطبيع العربية في البحرين وأبوظبي وغيرهما.

ليس لنا إلّا أن نعذر الأنصاري وبقية المثقفين والمبدعين البحرينيين، الذين ندرك عمق محنتهم القائمة الآن مع النظام السياسي لبلدهم، غير أنّنا ننتظر مواقف أشدّ جرأة ووضوحاً كما عهدنا منهم على الدوام، حتى وإن كان الثمن "انتحار الأنظمة العربية" هذه المرّة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.