متى تنفد قدرة التونسيين على التحمّل؟

متى تنفد قدرة التونسيين على التحمّل؟

24 يوليو 2023

مزارعان يحصدان عبّاد الشمس في البجا شمال غربي تونس (20/7/2023/فرانس برس)

+ الخط -

مع ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير مسبوق في تونس، على غرار بلدان عربية أخرى، يثبت شعب هذا البلد أنه استثنائي حتى في صبره. لا شيء يثير امتعاض الناس، وكأن الأمر قدر محتوم وامتحان إلهي يختبر فيه الخالق قدرتهم على التحمّل. في موجة الحر هذه، تنقطع المياه بشكل مستمرّ عن أحياء العاصمة، والأمر أكثر تكراراً وكثافة في المدن الداخلية الأخرى. يعلم الرئيس قيس سعيّد أن مخزون المياه بعد ست سنوات من الجفاف المتواصل قد تراجع إلى الثلث، في بلدٍ كان يعد نموذجاً في حسن إدارة المياه الشحيحة، نظراً إلى بناء السدود والبحيرات الجبلية بشكل نموذجي.
غدت أزمة المياه شبه معاناة يومية، تولت فيها الدولة اتخاذ إجراءات لأول مرّة في تاريخها، على غرار تقسيط المياه ومنع استعمال في أغراض عديدة... إلخ. ومع ذلك، تنقطع المياه ساعات طويلة في ذروة الحرارة غير المسبوقة. لا يدرك الرئيس أن الأسباب موضوعية، وأنه مهما كانت كفاءة المسؤولين أو جدارتهم، فإن الأمر يتجاوز هذه المعايير الشخصية. في أحد اجتماعاته، ألمح الرئيس إلى أنّ الأمر يعود إلى مؤامرة تحيكها أطرافٌ عديدة، منها حركة النهضة. وهو يعمد إلى إحياء فكرة المؤامرة أحياناً وفكرة الدولة العميقة أحياناً أخرى. وكنّا سنصدّق هذه الخيالات، لو أنه لم يعمد، في مناسبات عديدة، إلى إقالة مسؤولين كان قد اختارهم هو بذاته بعد أشهر قليلة من تعيينهم.

الشعب التونسي من أكثر الشعوب استهلاكاً للخبز، بل يتصدّر قائمة الدول، حين يكون نصيب الفرد الواحد ما يناهز 260 كلغ

لا تنتهي معاناة الناس عند حدّ أزمة العطش، بل يزداد ضنكهم أيضاً، وهم يرون تلك الطوابير الطويلة أمام محلات بيع الخبز المختلفة، "الشعبية" والفاخرة. غدا الحصول على الحد الأدنى من الخبز مسابقة يومية يخوضها التونسيون للظفر بذلك. الشعب التونسي من أكثر الشعوب استهلاكاً للخبز، بل يتصدّر قائمة الدول، حين يكون نصيب الفرد الواحد ما يناهز 260 كلغ. غير أنه يتصدّر أيضاً الترتيب العالمي في هدر الحبوب المستهلكة ورميها في سلة النفايات. وكأن هذا يشبه العقاب الإلهي، حتى يستفيق المواطن على عجب العبث بما يفعل بموارد تستورد بالعملة الصعبة في سياق يشهد شحّ الحبوب ذاتها إثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والأزمة المالية العمومية والعجز التجاري المستفحل. تتضاعف مع اختفاء الرز وأغلب ما يمكن أن يكون بديلاً. وتتوقع المصادر العلمية أن يزداد الأمر سوءاً في الأسابيع القليلة المقبلة، مع التهديدات التي بدأت تمارسها روسيا في مسألة تسويق الحبوب على المستوى العالمي.
لم تسلم الكهرباء أيضاً من هذه الانقطاعات الدائمة، ما لا يعود إلى مؤامرةٍ كما قد يتبادر إلى ذهن السلطة، بل إلى أزمة استيراد المحروقات التي ظلّت البلاد تعاني منها منذ مجيء الرئيس قيس سعيّد، واستفحال أزمة الدين الخارجي، وعجز البلاد عن الالتزام بتعهداتها، وهو ما يفسّر إصرار السلطة على الفوز بقروض البنك الدولي أو غيره من المؤسّسات المانحة، علّها تساهم في حلحلة الأزمة. وقد أفلحت، إلى حد ما، في إدراك هذا الهدف، بقطع النظر إن كان الأمر يتعلق بصفقة على حساب حقوق المهاجرين أو شراكة شاملة في إدارة الأزمة المندلعة منذ أشهر في البحر الأبيض المتوسط.

ليس للتونسيين القات اليمني أو سحر كرة القدم في البرازيل حتى ينسوا، وجبال الهمّ والغمّ تتكدس كل يوم على أكتافهم المهدودة

نزلت الإضرابات المتتالية التي شلّت المرفق العمومي بجودة الخدمات إلى الحضيض، حتى غدا الظفر بموعد مع طبيب في القطاع العمومي معجزة، فما بالك بإجراء عمليات أو أنواع العلاج الأخرى. تدمّر النقابات ما تبقّى من مكاسب الدولة الوطنية، وهي تعربد بلا رقيب تقريباً. حرمت نقابات التعليم العالي من مشاعر الفرح المدرسي الذي يرافق العائلات عند نهاية كل سنة حين حجبت عن أولياء الأمور خلال الموسم الدراسي الحالي الأعداد والتقييمات، كما هو معتمد في النظام التعليم بتونس، ما شكّل إذلالاً لهم وللسلطة معاً. تحرّك الوزير النقابي السابق، وقد كان عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل في عهدة سابقة، وأقال ما يناهز 350 مدير مدرسة لمشاركتهم في عملية الحجب تلك، غير أن الأزمة ازدادت تعقيداً، خصوصاً أن النقابة تهدّد بمقاطعة العودة المدرسية بعد شهر ونصف الشهر تقريباً. توحي نذر التصعيد بأن معركة كسر عظام انطلقت، وستكون ملايين العائلات ضحيّتها، وهي تبحث عن فرح ما ينسيها أزمة المياه والخبز والكهرباء والخدمات العمومية الرئيسية. ومع ذلك، ما زال التونسيون قادرين على التحمّل، لا شكوى ولا تذمّر، إلا تعليقات نادرة في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أقرب إلى السخرية السوداء.
ليس للتونسيين القات اليمني أو سحر كرة القدم في البرازيل حتى ينسوا، وجبال الهمّ والغمّ تتكدس كل يوم على أكتافهم المهدودة، حتى بطلتهم أنس جابر تخسر نهائي دورة ويمبلدون، ودموعها تُغرق محبيها وشعباً كاملاً انتظر أن يفرح، ولو لحظات، في حرّ قاتل.
تصرّح امرأة مسنّة في أحد البرامج، حتى عاد قولها طرفة: "لقد قطعتم معنا كل شيء، ولم يعنينا اختفاء مادة القهوة، أما أن تقطعوا عنا الشاي وهو دواؤنا زهيد الثمن عند القلق والضيق، فإنكم ستدفعون الثمن عاجلاً أو آجلاً"... من يدري قد نشهد ثورة الشاي في تونس قريباً؟

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.