ما حاجة ليبيا للتطبيع مع الإسرائيليين؟

ما حاجة ليبيا للتطبيع مع الإسرائيليين؟

05 سبتمبر 2023

فلسطينيون في غزّة يدعمون الشعب الليبي لرفضه التطبيع (31/8/2023/فرانس برس)

+ الخط -

كلما تواردت الأنباء عن خطوات عربية للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، عاد إلى الظهور السؤال ذاته بشأن حاجة المطبِّعين للعلاقة مع هذا الكيان، وكذلك السؤال عمّا يمكن أن تجنيه الدول السائرة في ركب التطبيع. وقد عادت هذه الأسئلة والأفكار قبل أيام مع كشف الإسرائيليين عن لقاء جمع وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، مع وزير خارجية الاحتلال، إيلي كوهين، في روما. ومن المفارقات أن المطبّعين يدركون أنهم يقترفون موبقات ستجلب لهم غضباً شعبياً، وقد تؤدي ببعضهم إلى الخلع من منصبه، إلا أنهم يصرّون على التطبيع، ويحاولون إظهارَه طوق نجاة لبلدانهم. غير أن التجارب السابقة أثبتت أن التطبيع لم يكن سوى قشّة لم تحمِهم من الغرق، ولن تحميهم إذا لم يجدوا السبل الصحيحة للتخلّص من المشكلات التي تواجه بلدانهم، وتلك التي تواجههم هم أنفسهم في المواقع التي يشغلونها.
من سوء حظ رئيس الحكومة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، وفي الوقت ذاته من محاسن المصادفات لمعارضيه ولأبناء الشعب الليبي الذي يرفض التطبيع مع الإسرائيليين، كشفُ وزير الخارجية الإسرائيلي عن اللقاء السري الذي جمعه مع نجلاء المنقوش، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، ما قد يقوّض هذا المسار. وتمثَّل سوء حظه بأنه يتعامل مع حكومة إسرائيلية لم يعد لديها سوى التطبيع مع العرب إنجازاً تقدّمه لجمهورها في الكيان الإسرائيلي، فأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية البيان الذي فضح خطوة حكومة الدبيبة التطبيعية. ولافتٌ أن حكومة بنيامين نتنياهو، وكعادتها في مثل هذه الخطوات، لم تراعِ الطرف الآخر، بل فضّلت التغاضي عمّا يمكن أن يشكله الإعلان عن اللقاء المذكور من إحراج، أو ربما أزمة للحكومة الليبية ورئيسها، من أجل تسجيل بعض نقاطٍ هي في أمسّ الحاجة إليها هذه الأيام بسبب أزمة التعديلات القضائية التي تخوض فيها. وفور إعلان الوزير كوهين عن الأمر، حصلت احتجاجاتٌ شعبيةٌ في ليبيا رافضة الخطوة. كما واجه الأميركيون الإعلان بسخط لأنهم كانوا يعدّون لصفقة تطبيع على نار هادئة بعيداً عن الأضواء مخافة فسادها. كما أصبح الإعلان فرصةً لمعارضي الحكومة الإسرائيلية الذين وصفوها حكومة هواة بعد كشفها عن اللقاء المفترض أن يبقى سرّياً كُرمى للطرف الآخر.

لقاء المنقوش بكوهين لا يمكن أن يجري من دون علم رئاسة مجلس الوزراء التي تقضي الإجراءات الناظمة لعمل أعضائها

وقد أظهر رد فعل الحكومة الليبية مدى التخبّط الذي يعيشه أفرقاؤها، والذين يبدو أنهم في موقع العجز عن حلّ مشكلات البلاد أو التقدّم خطوة واحدة لإنهاء الانقسام الذي تعيشه، أو حتى إنهاء حالة الانغلاق السياسي الذي يشلّ ليبيا. وبسبب الورطة التي وجدوا أنفسهم وسطها، نفى المسؤولون الليبيون علمهم المسبق باللقاء، وهو ما لا يمكن أن يصدّقه أحدٌ من أبناء الشعب الليبي وغيره. لذلك رأينا كيف ازداد تخبّطهم مع إقالة الوزيرة المنقوش، وتحميلها وزر اللقاء، محاولة منهم لنفض أياديهم منه، مظهرين العفّة من عارٍ يعرفون أنه سيلحقهم. في حين أن لقاءً كهذا لا يمكن أن يجري من دون علم رئاسة مجلس الوزراء التي تقضي الإجراءات الناظمة لعمل أعضائها أن يُؤذَن للوزيرة بالسفر لتأدية مهمّة خارجية، لكي تستطيع مغادرة البلاد. كما تكون المهمّة محدّدة بالزمان والمكان، علاوة على تحديد الأفراد المرافقين، وجدول الأعمال وطبيعة المحادثات، واطّلاعها على الأشخاص الذي سيحضرون في الطرف المقابل والمواقع الرسمية التي يشغلونها. أما أن اللقاء قد جري عرضياً، فلا يمكن لوزارة الخارجية الإيطالية أن تُقحم طرفاً ثالثاً في لقاء يجمعها مع الوفد الليبي من دون موافقته، وإلا سيعدّ الأمر انتهاكاً لبروتوكولٍ يمكّن للطرف الليبي الاحتجاج ضد الحكومة الإيطالية إن أقدمت عليه.
بالنظر إلى لقاءاتٍ عديدة سابقة جمعت ليبيين مع مسؤولين إسرائيليين لأغراضٍ كثيرة، ليس أقلّها استقواء طرف بالإسرائيليين على طرفٍ منافس، كما في حالة اللواء خليفة حفتر ولقاءات نجله بهم، يمكن القول إن لقاء المنقوش كوهين يعدّ الأكثر نضجاً في هذا السياق، لأنه جرى على مستوى وزيري الخارجية. وبناء عليه، يمكن وصف هذا المسار بأنه جدّي كان يمكن أن يتمخَّض عن مفاجأة للجميع، تتمثل بإعلانٍ صريح، في مرحلةٍ مقبلة، عن إقامة علاقات طبيعية. ولا ندري إن كان فضحُ اللقاء سيؤدّي إلى وقف هذا المسار، خصوصاً بعد انفجار الغضب الشعبي بشكلٍ لم تتوقّعه الحكومة، علاوة على رفض القوى السياسية له، ورفض القبائل والبرلمان الذي طالب النيابة العامة بالتحقيق بالأمر. وليست مسارعة الدبيبة إلى زيارة السفارة الفلسطينية، وإعلانه منها إقالة المنقوش ونفيه العلم باللقاء، إضافة إلى تعبيره عن تضامن حكومته مع القضية الفلسطينية، ليست سوى محاولة للتطهّر من رجس الإسرائيليين الذي مسّه حين التقت وزيرته بهم. ويعدّ هذا علامة إيجابية، ودليلا على قوة الشارع الذي رفض كل موقفٍ يخالف الإقرار بـ "عدالة القضية الفلسطينية" الذي أكّدته بيانات المحتجّين.

البلدان التي طبّعت سابقاً ازدادت سوءاً ولم ينفعها التطبيع في تحقيق تقدّم اقتصادي كانت تأمله

ويقودنا كل ما تقدّم إلى السؤال عمّا يمكن أن يجنيه الدبيبة وحكومته من التطبيع؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بعد التمعُّن في الذي جناه من سبقوه إلى التطبيع في مصر والأردن قديماً، وفي الدول التي طبّعت أخيراً، وآخرها السودان. وإذا كانت أحوال البلدان التي طبّعت سابقاً قد ازدادت سوءاً ولم ينفعها التطبيع في تحقيق تقدّم اقتصادي كانت تأمله، فالأمر ذاته حدث للسودانيين، فلم ينفع لهاث طرفي الصراع الدموي الجاري في السودان بين حلفاء الأمس عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، وتسابقهما إلى التطبيع مع الإسرائيليين، وإظهار كل طرف أنه سيكون الأكثر قرباً ووفاءً لإسرائيل إن دعمته لتقوية موقعه، لم ينفع أيُّ منهما في الغلبة على الطرف الآخر. وقد سارع كلٌّ منهما لطلب مساعدة الإسرائيليين، إلا أننا لا نعلم إن كانوا قد وعدوا أحدَهما بما وعدوا الآخر، ما أدّى إلى اندلاع الصراع فجأة. 
لذلك، واعتماداً على لقاء روما، يمكننا الافتراض أنّ ثمة وعوداً إسرائيلية للدبيبة بتغليب موقفه على مواقف بقية الساسة والمسؤولين الليبيين في الوزارات والمؤسّسات والجيش، لذلك أقدم على تلك الخطوة. كذلك ربما هي وعودٌ بتقوية موقفه بمواجهة اللواء خليفة حفتر الذي يعتبر تهديداً قائماً ودائماً لحكومة الدبيبة، غير أن الخشية في أن يدعم الإسرائيليون الدبيبة، إذا مضى مسار التطبيع في طريقه، في وقتٍ ربما يدعمون حفتر فيه، حينها قد نشهد سيناريو صراع البرهان ودقلو الدموي يتجسّد في ليبيا.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.