ماذا تغيّر بعد 7 أكتوبر؟

ماذا تغيّر بعد 7 أكتوبر؟

25 فبراير 2024
+ الخط -

دولة بأكملها تنتظر ردّ مجموعة "مارقة" على مبادرة جديدة لإطلاق سراح الرهائن، ومن ثم التوصّل إلى صفقة... كيف نقبل بهذا؟. ... بهذه الكلمات تقريباً عبّر مسؤول في حكومة دولة الاحتلال عن الحنق الذي انتابه وحكومته وهم ينتظرون ردّ حركة حماس على مشروع صفقة شاركت في صياغتها أطراف من المنطقة وخارجها. وفي مقابل هذا الحنق، استنفدت "حماس" وقتها كاملاً للتمحيص في ما عُرض عليها والردّ عليه بما تراه مناسباً لمعادلات السياسة والميدان. وعندما أعلنت الحركة ردّها، وتداولته وسائل الإعلام بشروطه ومقترحاته التفصيلية، تلقّفه المتابعون من سياسيين وإعلاميين وغيرهم باهتمام بالغ، تحليلاً وتقييماً مرتبطيْن بالسياق وبميزان القوى وبالمزاج الإقليمي والدولي الذي أنتجته أربعة أشهر من حربٍ وحشيةٍ على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. انتشرت وثيقة "حماس"، ولم يكن مفاجئا أن يردّ عليها الاحتلال بالسخرية التي تخفي مرارةً وغضباً بوصفها "واهمة" وغير واقعيّة لا ينبغي التفاعل معها وأخذها على محمل الجدّ أو مناقشتها أصلاً، وبأنها ستسقط تلقائياً "بنصرٍ فعلي مؤزر" لإسرائيل. ولم يكن مستغرباً كذلك ردّ فعل الإدارة الأميركية، حيث وصفت الوثيقة بـ"المبالغ فيها"، واعتبرت شروطاً فيها "تعجيزية". ولكنها تركت الباب موارباً بالتشديد على أن المساعي مستمرّة مع ذلك للوصول إلى صفقة واقعية وقابلة للتنفيذ...

المفاجئ حقّاً في ردود الفعل المتواترة تلك التي صدرت عن أوساط من منطقتنا. للأسف، بذريعة الواقعية الشديدة، رتّبت مطالب "حماس" الواحد تلو الآخر، وردّت على كل منها على حدة بعبارة تكاد تتكرّر من البداية إلى النهاية على الشكل الآتي: "وقف إطلاق النار": طيّب، كان موجوداً قبل 7 أكتوبر..."انسحاب الاحتلال من قطاع غزّة": طيّب، كان القطاع خالياً من الاحتلال وتديره حكومة قائمة في غزّة. ..."فكّ الحصار": كان القطاع محرّراً وتديره "حماس"، وكان معبر رفح مفتوحاً وكذلك معبر إيريز كان مفتوحاً أمام العمّال والمرضى، وكانت المعابر التجارية مفتوحة وتدخل منها ما بين 600 إلى 800 شاحنة يومياً... "إعادة الإعمار": كانت غزّة عامرة..."إيواء النازحين": كان النازحون في بيوتهم ويذهب أولادهم إلى المدارس ويذهب رجالهم إلى أشغالهم... القائمة كلها على هذه الشاكلة "تطلبون كذا؟ ألم يكن موجوداً بالفعل قبل 7 أكتوبر؟"، بمنطق عدمي ضيّق الأفق قصير النظر، يوحي بأن حياة سكان قطاع غزّة قبل 7 أكتوبر كحياة "من كان في نعمة ولم يشكر فخرج منها ولم يشعر"، بل تعمّد، في هذه المرّة، أن يخرُج من هذه "الجنّة بملء إرادته"! أيًُ منطقٍ هذا؟ وبأي منظارٍ تفحص مطالب الحركة التي تحبس أنفاس إسرائيل والعالم بعد مرورأكثر من 140 يوماً على هذه الحرب التي استنزفت كل معاني التوحّش ومرادفاته، وزعزعت الضمائر وهزّت "ثوابت" ما كان كثيرون يظنّون أنها ستهتزّ يوماً، في عالمٍ أصبح مفتوحاً مكشوفاً قفزت فيه أصوات العقل والضمير والأصوات الحرة في أكثر من مكان على محاذير الرقابة وأسوار الإعلام التقليدي المتحيّز الكاتم أي صوت يخرُج عن إيقاع جوقته في القارّات الخمس وفي الغرب الجماعي بشكل خاص.

وجوه مألوفة ومحبوبة من نجوم الفنون والفكر والرياضة ممن اعتلوا منصّات التتويج العالمية يطالعوننا بالصوت والصورة والكلمات المؤثّرة، ليعبّروا عن تضامنهم مع غزّة

نعم، غيّرت هذه الحرب أموراً كثيرة حولنا وفي الأذهان وفي كل مكان، وليس بمنطق "حماس تطلب كذا؟ ألم يكن هذا الكذا موجوداً قبل 7 أكتوبر؟" يردّ على مطالب الحركة أو يتم تقييمها، إذ إن الرهان أكبر وأعمق وأبعد مدى هذه المرّة، من دون التقليل لوهلة من حجم ألم سكّان القطاع ومآسيهم التي سيذكُرها التاريخ طويلاً.

لم يكن العالم قبل 7 أكتوبر ينظر إلى إسرائيل ويخاطبها كما صار يفعل بعدها، ولا يتعلق الأمر بالحكومات والمؤسّسات والهيئات والجماعات التي دأبت على دعم إسرائيل دعماً أعمى غير مشروط، ظالمة أو "مظلومة" ولم تكن مظلومة قَطّ، وحتى هذه الجهات تغيّر مزاج أغلبها وانعكس على خطابها، وإن ببعض الوجل تحت وقع رأي عام داخلي وعالمي انفكّ من عقاله أمام جنون إسرائيل وتوحّش جيشها الذي أبان عن وجهه الحقيقي، وهذه ضربةٌ موجعةٌ للكيان. وقد لعب عامل الوقت في هذا التغيير دوراً حاسماً، على عكس ما تمنّته حكومة نتنياهو، فقد راهنت على وهن خصمها بل خصومها، وكل من ترتاب في تحوّل مواقفهم مع مرور الوقت، بثباتها على الخط نفسه، أي القوة المفرطة ولا شيء غيرها، ولكنها صُدمت بعكس ما تفترض دائماً أنه تحصيل حاصل. لم تأخذ بالاعتبار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتزايدة التي تضيق قبضتها بشكل متزايدٍ على دول كثيرة تصنّف حليفة أزلية مهما كانت الأحوال، ولا الظرف الاقتصادي والسياسي العالمي الذي ألقى بظلاله على تفاصيل حياة الناس في معظم الدول، خصوصاً في المجتمعات المرفّهة التي بدأ مؤشّر الرفاهية فيها يتراجع، وهو خطٌّ أحمر بالنسبة إليها... فيما تستمر إسرائيل في مطالبتها، وليس "الطلب منها" بإمدادها بما يلزم من مال وعتاد عسكري بوتيرة لا تتوقّف، وليذهب اقتصاد الأصدقاء والحلفاء إلى الجحيم... وإنْ لم يصرّح مسؤولو هذه الدول بتململهم علناً بما يلزمهم رسمياً، فقد سمحوا لمواطنيهم بأن يعبّروا عن رفضهم أن يكونوا كبش فداء أو شركاء في حربٍ لم يقرّروها، ولكنها تكاد تطيح مظلّة قيمٍ شكّلت صورة مجتمعاتهم وقوّتها، وجاءت على حساب فواتير معيشتهم وتكلفتها، ويوجّهون سهام النقد بل الوعيد لحكوماتهم التي لم يفوّضوها للمشاركة في ما يسيء إليهم والإنفاق في ما لا يعنيهم... بل لهذا الغضب العام وجهٌ أمنيٌّ لا يخفى في بلدان الغرب التي تحتضن جاليات عربية ومسلمة ذات تعدادٍ كبير، وتشكّل بمفردها قوةً تحسب لها ألف حساب، وتؤجّج هذه الحرب العبثية البشعة نيرانها... وما المظاهرات المتواصلة في مدنٍ كثيرة إلا تعبير عن ذلك كله، مع خشية كبيرة من أن يخرج المشهد الشعبي لتلك المظاهرات عن السيطرة، وهو كابوسٌ يقضّ مضاجع حلفاء إسرائيل الطوعيين والمُجبرين. ولا شك أن الرسالة تصل إليها بوضوح، وتزيد الضغوط عليها... فهل كانت علاقة إسرائيل مع الحلفاء كما هي اليوم قبل 7 أكتوبر؟

لطالما عملت إسرائيل، عقوداً وعبر مؤسّسات كبرى تتحكّم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، على استقطاب من أصبحوا يعرفون اليوم بالـ"مؤثرين" في الفكر والأدب ومراكز البحث والأكاديميا والعلوم والإعلام والسينما والموسيقى والرياضة وعالم المال والأعمال، لحشد الدعم لها بمناسبة وبغير مناسبة، دعمٍ يصل إلى حد إعلان ولاءٍ من دونه لا يمكن دخول تلك القلاع، وكثيراً ما طالعتنا الأخبار بقصّة عن هذا الأديب أو ذاك الأكاديمي أو الممثل النجم أو المخرج الذي جرى لفظُه، لأنه عبّر عن موقف مبدئي وأخلاقي تجاه ظلم أو اعتداء ارتكبته إسرائيل، وما أكثر ما ترتكب! واليوم يطالعنا مشهد يبدو سوريالياً للوهلة الأولى، لكنه الحقيقة المستجدّة. وجوه مألوفة ومحبوبة من نجوم الفنون والفكر والرياضة ممن اعتلوا منصّات التتويج العالمية يطالعوننا بالصوت والصورة والكلمات المؤثّرة، ليعبّروا عن تضامنهم مع غزّة، وتنصّلهم من مواقف حكوماتهم السائرة ضمن القطيع، ومن فظاعة ما يُرتكب ضد سكّان عُزّل وأطفال، وحتى حيوانات كل أسباب الحياة... ويطالبون بوقف ذلك "فوراً"، في مشهد تراكمي ينبئ بصحوةٍ قد لا نرى ثمارها "فوراً"، ولكنها ثمار تنضُج شيئاً فشيئاً... فهل كان من السهل أن تتحرّر الألسن والضمائر ويغامر النجوم بنجوميتهم وأعمالهم ومكانتهم قبل 7 أكتوبر؟

لم يكن العالم قبل 7 أكتوبر ينظر إلى إسرائيل ويخاطبها كما صار يفعل بعدها، ولا يتعلق الأمر بالحكومات والمؤسّسات والهيئات والجماعات التي دأبت على دعم إسرائيل دعماً أعمى

تبدو إسرائيل اليوم مرتبكة متوتّرة وغير متّزنة، تدور حول نفسها وفي كل الاتجاهات، لا تعرف من أين ستأتيها الضربة، ولا على من تردّ أولاً، ولمن تستعد لاحقاً، رغم ما تُبديه من مظاهر ثبات وتصميم، ورغم ما يرافق ضربات خصومها في المنطقة من تتفيه وتمييع وسخرية تصوّرها كضربات استعراضية وجعجعة إعلامية من جماعات فوضوية هامشية لا تعرف ما هدفها بالضبط.. ولكنها ضرباتٌ مؤثّرة أمنياً واقتصادياً ومعنوياً، كشفت حقيقة إسرائيل كنبات في غير أرضه، يذبل ويندثر لو انقطع عنه المدد الآتي من بعيد، ففي أربعة أشهر من هذه الحرب تكبّد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر لم يعهدها، وتراجعت إسرائيل وجهةً سياحية مفضّلة، ثم جاء تخفيض وكالة موديز لتصنيف إسرائيل الائتماني أول مرّة في تاريخها ليسدّد لها ضربة موجعة أخرى بعد أسابيع فقط من حدث نادر جُرّت فيه جرّاً إلى محكمة العدل الدولية لأول مرة في تاريخها بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، في مرافعاتٍ مشهودة فتحت الباب لمزيد من القضايا تكفل بها قضاةٌ ومحامون مستقلون من دول شتّى يجمعهم العزم على إيقاف إسرائيل عن غيّها وإعادة الاعتبار للقانون الدولي الذي يكاد يصبح حبراً على ورق، ويجمعهم سقوط حاجز الخوف أمام مستقبل مخيف يهيئ له عنف إسرائيل غير المسبوق، الأسس والمرجعيات... ولم يحدث هذا قَطّ قبل 7 أكتوبر.

هو "طوفان" بالمعنى المجازي، والطوفان يقلب ما يعترضه رأساً على عقب ويجرف ويكشف ما في القاع ويذهب بما كان قائماً، وبعد مروره يظهر مشهد جديد، وإن استغرق زمناً. عملت أطراف كثيرة على مسح وعي الأجيال الجديدة، وبدأت التهيئة لذلك منذ أربعة عقود على الأقل، وساعدت فيه، وبشكل مخيف، وسائل التكنولوجيا الحديثة، وصولاً إلى فضاءات التواصل الاجتماعي متعدّدة الأسماء والمحتويات التي تستنزف الوقت والعقول والحواس، إلا أن هذه الوسائل بالذات كشفت فشل المخطّط وأظهرت أجيالاً من الشباب في منطقتنا وفي المهجر وفي الشتات، متشبعين إلى النخاع بالقضية الأم ومتشحين برموزها المادية والمعنوية، وممتلكين أدوات التأثير حتى في المجتمعات التي هاجر اليها أهلهم وولدوا وترعرعوا فيها، فهل كان هذا من المسلّمات أم هو تعبير إضافي عن صحوة كونية حرّكتها غزّة وعجّلت بها؟

تبدو إسرائيل اليوم مرتبكة متوتّرة وغير متّزنة، تدور حول نفسها وفي كل الاتجاهات، لا تعرف من أين ستأتيها الضربة، ولا على من تردّ أولاً

نشهد منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حراكاً شعبياً وإنسانياً متزايداً، متسارعاً تجاوز حدود الجغرافيا، قابلَه بطء في الاستجابة السياسية، ولكنها استجابةٌ حاصلةٌ وإجبارية، تحكُمها اعتبارات المصلحة والأيديولوجيا وضغوط اللوبيات. مع ذلك، بدواعي "المصلحة المشتركة" أيضاً، بدأت واشنطن تخوض في "المحظورات"، ودعت إلى قيام دولة فلسطينية حلاً دائماً ضامنأً للاستقرار ولأمن المنطقة وكل من له علاقة بها.. تبعتها عواصم كبرى في أوروبا، وكذلك فعلت كندا، هذا من دون ذكر عشرات الدول الأخرى التي تدعو إلى هذه الدولة منذ اتفاق أوسلو، من دون أن يكون لدعوتها أيّ صدىً أو تأثير. ولكن الظرف مختلفٌ هذه المرّة، ويستشعر الجميع خطراً وجودياً حقيقياً، وإن بدرجات... يجهر كثيرون اليوم بأن اتفاق أوسلو دُفن منذ أمد طويل، إلا أن المستفيدين يشترون به الوقت ... وأن هناك مشهداً جديداً يتطلّب وضعاً فلسطينياً فصائلياً جديداً ووحدة فلسطينية أصبحت بمثابة "قضية حياة أو موت"، وهي دعوةٌ يتزايد زخمها وبوادر الاستجابة لها. هي خطوةٌ أولى باتجاه هذه الدولة الموعودة التي لا توضَع لها سقوفٌ زمنيةٌ محدّدة عادة، حتى يمكن التنصّل من الوعد بها لاحقاً، ولكن مرّة أخرى: الظرف مختلف هذه المرّة، لا يبدو اليوم أن المفاتيح كلها بيد طرفٍ بعينه اعتاد أن يتحكّم في الإيقاع بتفاصيله، إذ يمكن الجزم فعلاً بأن العالم يتغير ومعه أدوات التأثير وقوّته... ولولا أن إسرائيل تدرك هذه التغييرات حقيقة ماثلة، لما خرج وزير الأمن في حكومتها، إيتمار بن غفير، ليردّ على من يدعو إلى دولة فلسطينية، قائلاً: "العالم يريد أن يعطي الفلسطينيين دولة، وهذا لن يحدُث"... ألم تكن إسرائيل نفسها تلعب ورقة الدولة الفلسطينية من دون أن تعلن رفضها لها بهذه الفجاجة؟ ولكن ها قد فعلتها، وتكشّفت الحقيقة للعالم: تريد إسرائيل أن يعيش الفلسطينيون كمجموعة خاضعة لاحتلالها إلى الأبد، أو أن تهجر غالبيّتهم. وهذا الاعتراف وحده كفيلٌ بفتح صفحة جديدة تماماً في هذا الصراع وأدبياته وأدواته، فهل كانت إسرائيل لتكشف نيّاتها رسمياً بشأن الدولة الفلسطينية قبل 7 أكتوبر؟

وعوداً على بدء، انتهى ذلك التقييم الذي انتقص من مطالب "حماس" وشروطها إلى سؤال: إذا كنتُم ترون شروط منتصرين، فدلّوني عليها. ... ويختتم هذا المقال الذي لم يتّسع لكل ما غيّرته الحرب على غزّة بالسؤال: إذا كنت لا ترى ما تغيّر في العالم حولك منذ 7 أكتوبر، فأخبرنا على أي كوكبٍ تعيش.