لن يكون في تونس قانون لتجريم التطبيع

لن يكون في تونس قانون لتجريم التطبيع

11 نوفمبر 2023

علم فلسطين في برلمان تونس في أثناء جلسة لمناقشة تجريم التطبيع مع إسرائيل (2/11/2023/Getty)

+ الخط -

في شأن الانتخابات الرئاسية، لا يمكن الحديث عن انتصارٍ مضمون، لا للرئيس الحالي جو بايدن، ولا السابق دونالد ترامب، ذلك لأن الإشكالات المتعلقة بعجز الأول عن فرض نفسه في الصفوف الديمقراطية،، استولد نقاشاتٍ في واشنطن، عن محدودية الخيارات المتاحة للناخب الأميركي عندما تكون في موقع تسيير دولة عليك أن تجنّب شعبك الدخول في معارك لا تتحملها بلادك. تكمن القوة في تحقيق الهدف بذكاء وبأقل الخسائر.

تحوّل مشروع قانون تجريم التطبيع في تونس إلى أزمة سياسية أضرّت كثيرا بصورة رئيس الدولة قيس سعيّد، وكشفت عن ضعف البرلمان الحالي وهشاشته. بدا السياق العام مناسبا لكي يرى هذا القانون النور بعد انتظار دام طويلا، فبعد الثورة طرحت هذه المسألة واختلفت في شأنها النخبة، وفي كل مرّة، يتم تأجيل البتّ فيها لأسباب بقيت مجهولة لدى الرأي العام. حتى حركة النهضة التي دافعت عن المبدأ في البداية، سرعان ما غيّرت تكتيكها عندما أدركت، وهي في السلطة، أن جهات دولية لها مصالح كبرى مع تونس قد تمارس ضغوطا من شأنها أن تُحدث ضررا بمصالح البلاد وبمصالح الحركة. ثم مع دخوله في السباق الرئاسي، أكد قيس سعيّد، في المناظرة التي جمعته بمنافسه نبيل القروي أن التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى. وفهم المراقبون أن الغرض من ذلك إحراج الخصم بعد الكشف عن تعاقد القروي مع شركة علاقات عامة (لوبينغ) يديرها ضابط إسرائيلي سابق مقابل تحسين صورته لدى الإدارة الأميركية. واستغل المرشّح قيس سعيّد هذا الملف ليسحق خصمه وأسقطه بالضربة القاضية. ولهذا اعتُبرت المسألة مجرّد تكتيك انتخابي لا غير.

عادت مسألة تجريم التطبيع بقوة، أخيرا، خصوصا مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزّة. كما تعدّدت تصريحات الرئيس المتعلقة بالحركة الصهيونية العالمية، ودعوته إلى تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر. في هذا السياق، بادرت مجموعة من الكتل البرلمانية الداعمة للرئيس سعيّد، ودافعت عن صياغة مشروع قانون تجريم التطبيع وتمريره، وشرعوا في مناقشة فصوله. كانت الجلسة تسير بشكل عادي، وفجأة قرّر رئيس المجلس، المحامي إبراهيم بودربالة، إيقافها. اختفى فترة، ثم ظهر ليعلن أمام الجميع أنه التقى رئيس الدولة الذي أعلمه أن هذا المشروع "يضرّ بمصالح تونس الخارجية"، وأن المسألة "تتعلق بأمن الدولة الخارجي"، وأن الأمر داخل البرلمان "اتّخذ طابعا انتخابيا". رغم هذا التوضيح، استمرّ النواب الغاضبون في المطالبة باستمرار جلسة المناقشة، وشكّكوا في صحّة كلام رئيس المجلس، واتّهمه أحدهم بأنه على تواصل دائم مع السفير الأميركي، وأن هناك تدخلا أميركيا لإسقاط المشروع.

دفع هذا التوتر الرئيس سعيّد إلى القول "نحن في حرب تحرير لا حرب التجريم"، واقترح الاستئناس بالفصل 60 من المجلة الجزائية لإدراج الخيانة العظمى والتنصيص على العقوبات التي تسلط على مرتكبها. لم يُعجب هذا التوضيح المحتجين داخل البرلمان، وبقوا مصرّين على موقفهم، حتى أن أحدهم لم يتردّد في القول إن "الرئيس يرفع شعارات فضفاضة أكبر منه ولا وصاية على البرلمان". وهي المرّة الأولى التي يتعرّض فيها الرئيس لانتقادات من أشخاصٍ يعود الفضل له في أن يصبحوا أعضاء في برلمان أغلبيته الساحقة من أنصاره.

أزمة جديدة غير مسبوقة بين رئاسة الجمهورية والمؤسّسة التشريعية. وتعود الأسباب إلى عوامل عديدة، منها أن سعيّد أدرك من موقعه رئيسا للدولة أن تونس في وضع هشّ، وأن إسرائيل وحلفاءها يمكن أن يمارسوا ضغوطا قاسية لا يتحمّلها التونسيون في الوقت الراهن. لهذا وجد نفسه في مأزق سياسي. من جهةٍ، رافض الاعتراف بالسقف الذي قبل به الفلسطينيون بما في ذلك حركة حماس اضطرارا وليس اختيارا، أي قيام دولة على حدود 67، بينما تمسك هو بتحرير فلسطين التاريخية، ومن جهة أخرى، يحاصره الإجماع الدولي القائم على الاعتراف بإسرائيل وحمايتها. في هذا الوضع المعقد، يحاول الرئيس التراجع تكتيكيا، وفي حال المصادقة على قانون تجريم التطبيع هو مضطرّ لعدم التوقيع عليه، فيكون المشروع قد ولد ميّتا، لأن الذين يتحدّثون عن سيادة البرلمان ينسون أن مفتاح المجلس بجيب الرئيس.