لماذا انتفض الشارع الفلسطيني ضد السلطة؟

لماذا انتفض الشارع الفلسطيني ضد السلطة؟

21 يوليو 2021
+ الخط -

ثمة أسباب وخلفيات عديدة لانتفاضة الشارع الفلسطيني المتواصلة ضد السلطة الوطنية وقيادتها، منها الاستراتيجي المتعلق بفشلها في إنجاز مهامها المركزية، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى استبدادها وفسادها وعجزها عن بناء مؤسّسات وطنية قوية وراسخة، ومنها التكتيكي والمرحلي، المتضمن الهرب من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ثم العجز عن نجدة هبّات القدس ومعركة سيفها، وأخيراً حادثة مقتل الناشط نزار بنات في أثناء اعتقاله من جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة في نهاية الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) وفشل هذه الأخيرة في تقديم إجابات وتفسيرات منطقية ومقبولة تجاه الحادثة.

استراتيجياً، يمكن القول إن السلطة فشلت في هدفها المركزي ومبرّر وجودها أصلاً المتمثل بنقل الشعب الفلسطيني من مرحلة التحرّر الوطني إلى السيادة والاستقلال وتقرير المصير، علماً أنها كانت تصف نفسها، طوال العقود الثلاثة الماضية، جسرا باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، مع حلّ عادل لقضية اللاجئين وفق الشرعية الدولية، لكنها تحوّلت، بدلاً من ذلك، إلى قناع أو أداة أو وكيل لأرخص احتلال في التاريخ، كما يردّد دائماً رئيس وزرائها، محمد اشتية الذي اعتبر ولا يزال رفع كلفة الاحتلال بمثابة التحدّي الأهم أمام قيادة السلطة، والذي فشلت فيه أيضاً فشلاً ذريعاً. بتفصيل أكثر، يمكن القول إن السلطة أزالت عن كاهل الاحتلال مسؤولياته الأساسية تجاه الشعب الفلسطيني وفق القوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة (اتفاقية جنيف الرابعة تحديداً)، وهي تقوم عملياً بدور الزبّال والدركي ومفتش الصحة، حسب التعبير الحرفي لملك الأردن الراحل حسين بن طلال، والذي كان قد رفضه بعدما عرضته عليه إسرائيل طوال من 1967 إلى 1974. ومثّل ذلك العامل الجوهري وراء قناعته باستحالة التوصل إلى تسوية عادلة ومقبولة مع الدولة العبرية، وفق قرار مجلس الأمن رقم 242، وبالتالي قبوله الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط العربية في 1974.

الأسوأ أنّ السلطة واصلت التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكبح جماح الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، ومنعه من التضامن بقوة مع الهبّات والمعركة

في السياق الاستراتيجي أيضاً، عجزت السلطة عن بناء منظومة حكم رشيد ومؤسّسات شفافة ونزيهة وجدّية، حتى لو طالت المرحلة الانتقالية، وبدت كأنها استنساخ فظ وخشن لمنظومة الفساد والاستبداد العربية، بعدما كانت منظمة التحرير استنساخا ناعما ولطيفا لها، وفعلت ذلك في مواجهة شعبٍ تبلغ نسبة الأمية فيه صفر تقريباً، ويملك طاقات ومواهب وقدرات كبيرة، مستندة إلى إرث نضالي وجهادي كبير في الداخل والشتات. وفي ما يخص الشتات تحديداً، حيث يعيش أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، كان فشل قيادة السلطة مدوّياً، بعدما عجزت عن الاستفادة من قدراته وإمكاناته الهائلة متعدّدة الأبعاد والمستويات، بل وتصرّفت طوال الوقت كأنها لمواطني الداخل فقط، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى من دون القدس، مع تجاهل تام أيضاً للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948.

ارتباطا بما سبق، تمكن الإشارة إلى الاقتتال والانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي فتح وحماس، والضفة الغربية وغزة، والذي كان نتاجا للمعطيات السابقة، وأدّى، ضمن أسباب أخرى طبعاً، إلى تعطيل الحياة السياسية والديمقراطية، وعدم إجراء الانتخابات سنوات طويلة، ثم استغله الرئيس محمود عباس لحلّ المجلس التشريعي المُنتخب، بعد تهميشه وتعطيله سنوات. بموازاة فرض هيمنته التامة على الهيئات القضائية، بحيث بات يتحكّم تماماً بالسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع تضييق على السلطة الرابعة وملاحقة الصحفيين وأصحاب الرأي.

هذا استراتيجياً. أما تكتيكياً ومرحلياً، فيمكن الحديث عن عدة تطورات مهمة، حدثت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أوّلها وأهمها الهرب من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بعد انتظار 16 عاماً بحجة عدم موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس، فيما بدا عذراً أقبح من ذنب، خصوصا بعد هبّات المدينة المتتالية ضد الاحتلال التي كرّست هويتها الفلسطينية العربية، وأكّدت رفضها الخضوع للاحتلال ومشيئته، علماً أن الجميع يعرف أن السلطة هربت منها، لخشيتها من الهزيمة وكون المرسوم الانتخابي حرّك المياه الراكدة، وأظهر الإجماع على ضرورة القيام بإصلاحات ديمقراطية جدّية وواسعة في المنظومة السياسية بشكل عام، وتحديداً منظمة التحرير بصفتها الإطار القيادي المرجعي الأعلى للشعب الفلسطيني.

كان مقتل نزار بنات في أثناء اعتقاله من جهاز الأمن الوقائي بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، والقشّة التي قصمت ظهر البعير

في العوامل والمعطيات التكتيكية، نلحظ عجز قيادة السلطة وصمتها في أثناء هبّات المدينة القدس في إبريل/ نيسان، ثم معركة سيفها في مايو/ أيار، حيث غابت القيادة تماماً، وبدت منطوية على ذاتها في المقاطعة، من دون أي مبادرة سياسية أو حتى حضور إعلامي. والأسوأ أنها واصلت التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكبح جماح الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، ومنعه من التضامن بقوة مع الهبّات والمعركة، وبالتالي فتح جبهاتٍ ومعارك استنزاف إضافية في مواجهة الاحتلال المرهق على جبهات القدس وغزة.

في السياق، تمكن الإشارة كذلك إلى صفقة، بل فضيحة تبادل لقاحات كورونا بين السلطة وإسرائيل، بكل ما للكلمة من معنى. وحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق غير الرسمية فقد شهدت الصفقة - الفضيحة قصورا إداريا وفنيا وسياسيا وعجزا عن قيام المؤسسات بمهامها، بعدما تلاعب بها الاحتلال. وذهبت هيئة النزاهة "أمان" إلى أبعد من ذلك، متحدّثة عن وجود شبهات جنائية، وطالبت بتحقيق جدي ذي أنياب، لتحديد المسؤوليات ومحاسبة المقصّرين والمتورّطين.

في أيقونة المقاومة الشعبية، بلدة بيتا، تبدّت أيضاً سوءات السلطة التي غابت تماماً عن المشهد، وتركت مواطنيها في مواجهة بطش الاحتلال والمستوطنين وإجرامهما، بل إن هيئة الدفاع المدني التابع لها رفضت إرسال عربات إطفاء ومعدات ذات صلة خاصة، تحسباً لاندلاع حرائق أو وقوع حوادث في أثناء فعاليات البلدة المتواصلة ضد المستوطنين وجيش الاحتلال.

عجزت السلطة الفلسطينية عن بناء منظومة حكم رشيد ومؤسّسات شفافة ونزيهة وجدّية

وأخيراً، كان مقتل نزار بنات في أثناء اعتقاله من جهاز الأمن الوقائي بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، والقشّة التي قصمت ظهر البعير، كون الجريمة إلى هذا الحد أو ذاك اختصرت المعطيات السابقة كلها أي طبيعة السلطة ودورها ومهامها وتحولها إلى سلطة قمعية من دون أي سهر أو رعاية لحياة الناس في مناحيها المختلفة، ناهيك عن الفشل الاستراتيجي في تحقيق أمالهم وطموحاتهم الوطنية في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.

وعموماً، يشبه مشهد انفجار الغضب الشعبي ضد السلطة وممارساتها القمعية الموجات الأولى من الثورات العربية التي أسقطت أنظمة الفلول القدامى التي تنتمي إليها قيادة السلطة، علماً أنها وصلت إلى نهاية الطريق، خصوصا في ظل الأجواء التي أحدثتها هبّات القدس ومعركة سيفها، والتي تشبه أجواء ما بعد معركة الكرامة 1968 التي أدّت إلى تغيير قيادي فلسطيني جذري وهائل آنذاك، أوصل، للمفارقة، المنظومة السياسية الحالية التي باتت في نهاية طريقها.

وفي الأخير، وبناء على ما سبق كله، يمكن الاستنتاج أننا بتنا أمام نهاية مرحلة الرئيس محمود عباس، وربما مرحلة حركة فتح المشتتة والمنقسمة، والتي تحولت "تقريباً" إلى حزب سلطوي مترهل ومستبد. وبالتأكيد نحن مقبلون على تغيير كبير في المشهد الفلسطيني مع انتخابات أو بدونها، ويفضل أن يحدث ذلك بتوافق وبشكل سلمي وديمقراطي وهادئ للتفرّغ للمعركة المركزية مع الاحتلال، بعدما عجزت القيادة الحالية عن حسمها، وإنجاز الأهداف التي وضعتها هي بنفسها.