لبنان لم يُكتب له أن يموت ولا أن يعيش

لبنان لم يُكتب له أن يموت ولا أن يعيش

11 مارس 2021

مار نصر الله بطرس صفير وبشارة الراعي وإلياس عودة وغريغوار حداد وجورج خضر

+ الخط -

(بالإذن من المطران جورج خضر)

تغيّر اللبنانيون بعد انفجار مرفأ بيروت في 7 أغسطس/ آب الماضي. والتحقيق بالجريمة معطَّل. ولو حصلَ، وخرجت نتائجه إلى العلن، فسوف يكشف عن ضفائر من الجرائم المُحْكمة. جرائم محبوكة بخيوطٍ محلية، إقليمية، وربما دولية. أبطالها ممْسكون برقاب اللبنانيين، باسم مؤسسات وقوانين حوّلوها إلى رِثاث. وكان انعدام أمانهم، وشعورهم بأن حكامهم هم من صنف المجرمين ذوي الملامح المتنوّعة، فانفجار المرفأ أسقط آخر نظريات الأمان. نظرية "حماية الأقليات"، التي كانت تعني مسيحيي لبنان تحديداً. يُراد منهم الإعتقاد بأنها تحميهم من المقْتلة السورية. يطبّقها حزب الله في سورية عسكرياً، وحجته المكرّسة: أنه يشارك فيها منعاّ لوصول "داعش" إلى القرى والبلدات المسيحية اللبنانية، وبقية القصة المعروفة مع توابعها الصغيرة..

انتهى هذا العهد، بعدما أصيبَ عموم اللبنانيين بشظايا الانفجار. وأكثر من أصيب من بينهم، المسيحيون. كانت هذه النظرية تعنيهم قبل غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى، فاهتزت عروش حلفاء حزب الله من المسيحيين، ولم تَعُد المعاهدات والاتفاقيات الاستراتيجية متينةً على ما كانته قبل انفجار المرفأ.

جرائم محبوكة بخيوطٍ محلية، إقليمية، وربما دولية. أبطالها ممْسكون برقاب اللبنانيين، باسم مؤسسات وقوانين حوّلوها إلى رِثاث

هذا الأخير، أي الانفجار، كان منعطفاً إذن. ليس لحلفاء حزب الله من السياسيين المسيحيين وحسب، إنما لأعلى سلطة في الإكليروس: المطران بشارة الراعي، بطريرك الكنيسة المارونية في لبنان، فكانت المواقف التصاعدية للبطريرك ضد حزب الله وحليفه من العونيين. وقد تُوّجت منذ شهر بمهرجان حضره آلاف. كان مهرجاناً صاخباً بالشعارات التي رفعها جمهوره ضد حزب الله وسلاحه، متحمّساً لمواقف البطريرك الداعي إلى تدويل القضية اللبنانية وحياد لبنان عن الصراعات الإقليمية. والمعني بهما حزب الله، المنْخرط في هذه الصراعات بجوارحه.

أحدث ذلك نقاشات ومواقف حول قضايا التدويل والحياد، بين مؤيد ومعارض، من دون فتور ولا تأخّر. تلازمه نقاشات "جانبية" حول أحقية رجل دين بقيادة حركة سياسية بهذا الزخم. بين مؤيد ومعارض أيضاً. المؤيد لا يرى مانعاً في ذلك، طالما مواقف البطريرك "وطنية". بعضهم رفع "حرية المعتقد" حجّة للوقوف خلف الراعي. والآخر استحضر بطاركة بولنديين وبرازيليين، للدلالة على نجاعة هذا النوع من القيادة. فيما استبشر الثالث خيراً، من كون الراعي خليفة مار نصر الله بطرس صفير، "البطريرك الاستقلالي". والطريف، في المقابل، في الرأي المعارض لتولي الراعي القيادة السياسية لكونه رجل دين، كان ثمّة "علمانيون" ممانعون لا تجوز عندهم هذه القيادة، باسم "الفصل الصارم بين الدين والسياسة"، من دون أن ينتبهوا إلى انبهارهم بشمس "السيد"، قائد حزب الله.

نسوا المطران إلياس عودة، متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس، يلقي عظاته النارية ضد العهد والفساد ورجالاته، ويذهب بشجاعته بعيداً في اتهاماته حزب الله بنخر الكيان الوطني

والجميع نسي أن الراعي كان من المدافعين عن نظرية "حماية المسيحيين" التي أسقطها انفجار المرفأ. وأنه كان مسايراً لحزب الله، ومؤيداً لميشال عون، حليفه، وقد ساهم في صناعة كرسيه الرئاسي. ومؤيدا لرياض سلامة، حاكم البنك المركزي، الذي "هندسَ" سرقة أموال اللبنانيين. والاثنان لم ينلْ منهما البطريرك بكلمة، عملاً بالقاعدة الذهبية: "عدم المسّ بالمواقع المارونية الأولى". وكان شعارُه وقتذاك: حقوق المسيحيين في الداخل، وحماية الأقليات في الإقليم، ومحاربة الإرهاب عند الحدود. بل نسي الجميع رجال دين لبنانيين صميميين، يستحقون الذكر، للمقارنة على الأقل .. إن لم نقل إنهم هم الجديرون بقيادة المسيحيين نحو حقوقهم، إن لم نقل بانتشال اللبنانيين كلهم من حفرة موتهم المتسلْسل. نسوا المطران إلياس عودة، متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس، الذي ما زال يلقي عظاته النارية ضد العهد والفساد ورجالاته، ويذهب بشجاعته بعيداً في اتهاماته حزب الله بنخر الكيان الوطني، والذي تمرّ عظته مرور الكرام. نسوا المطران جورج خضر، الباحث والمفكر، وقد تجاوز الآن التسعين من العمر، صاحب القول المأثور "لبنان لم يُكتب له أن يموت ولم يُكتب له أن يعيش". وكاتب المقالات الأسبوعية في صحيفة النهار اللبنانية. والداعي إلى علمانية روحية، باسم إيمان أرثوذكسي حقيقي. ومقالات سياسية أيضاً، تخصّ لبنان بما كان يتدفّق في عقله من ومْضات نبوغ في فهمه العميق له، وفي التأريخ لعذابات المسيحيين في هذا الشرق.

ما زال المطران إلياس عودة شاباً. يصْدح صوته من أعلى المذبح، وتنطلق كلماته روحا وثّابة. أي إنه ما زال في عمر العطاء. عكس المطران جورج خضر التسعيني، الذي دخل في صمت الخريف من العمر. وإرثه موجود. في كتاب "المعلم"، حيث ينير المطران دروب اللبناني التائه الذي لا يرى نهائية لحدود وطنه. لكن الاثنين من طائفة "صغيرة". من الروم الأرثوذكس. وهؤلاء لا يزِنون كثيراً في ميزان القوى اللبناني. لذلك يسهل نسيانهم. ويسهل تجاهل صرخات عقولهم وقلوبهم، فلا يؤخذ بهما نماذج لرجال دين طليعيين، لا ضمنيات سياسية لديهم، ولا "مرجعيات" تردعهم عن قولهم بالحق.

وبهذا الحساب، يبقى من بين الاثنين، الأكثر هامشية من حيث الانتماء الديني، والأكثر ذهاباً في ترجمة أفكاره واقعياً: إنه المطران غريغوار حداد، الملقّب "مطران الفقراء"، و"المطران الأحمر". رحلَ عن دنيانا قبل ست سنوات. وتركَ لنا حكاياتٍ عن الجمعيات التي أنشأها، تنموية الطابع، وعلمانية التوجه. فوق كتاباته وتأسيسه مجلة "آفاق". وقتها، اعتبرت السلطات الكنسية مضامينها متناقضة مع العقيدة الدينية.. وأنشط الجمعيات التي أسّسها المطران غريغوار حداد، وأبرزها، "الحركة الاجتماعية"، العلمانية التنموية. وقد انتشرت في كل المناطق اللبنانية، وليس في بلدات أو أحياء طائفية محدّدة. وآخر ثمراته كانت جمعية "تيار المجتمع المدني"، عام 2000، التي تعرف عن نفسها بأنها "علمانية". ولكن عيب غريغوار حداد أكبر من عيب إلياس عودة وجورج خضر، فوالده من الأقلية اللاتينية، ووالدته من الروم الكاثوليك. أي من أقلية الأقليات. وما كان يمكن له أن يقود دينياً، فكان له نضال يسلك خلاله أكثر الطرق الممْكنة جذريةً.

النظام يعطّل الذاكرة. ولولا هذا العطْل، لما خضنا النقاش حول أحقية رجل دين أن يقودنا. كأنه أول وآخر رجل دين.

المقارنة بين هؤلاء المطارنة الثلاثة والراعي ليست عادلة تماماً، فلكل واحد منهم سياق، والسياق هنا هو النظام الطائفي الذي يحدّد سلفاً الرتبة التي يستحقها فردٌ، أو مواطن، ولد من بطن أمه حرّا. يأتي الواحد منهم إلى الدنيا مارونياً، فيكون اليقين بين أهله بأنه سيكون رئيساً للجمهورية أو بطريركاً لأبناء الطائفة وسائر المشرق. ويكون آخر من أبناء الطائفة اللاتينية، أو الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، فحدوده معروفة، وإرثه مهمَل، كأنه غير موجود.

ولكن لا جدوى. النظام يعطّل الذاكرة. ولولا هذا العطْل، لما كنا خضنا هذا النقاش حول أحقية رجل دين أن يقودنا. كأنه أول وآخر رجل دين. من دون أن نرى أين يقف، وأين وقف في ماض قريب. وأين يقف غيره من نظرائه، أقلّيي الأقليات. خصوصاً أن الطائفية، والطوائف، والمذهبية والمذاهب ورجالاتها من زمنيين ودينيين.. كله حاضر في المشهد. كله ينْضح ويفيض طائفية.

وفي كل الأحوال، هدأت الزوبعة قليلاً. ومساعي الخير بين المطران الراعي وحزب الله جارية. والتهدئة مطلوبةٌ بحسابات عصية على الفهم غالباً. واللعب على الألفاظ وإعادة تدوير العبارات والكلمات والشعارات .. وكله شغّال: حلفاء وخصوم الحزب من الموارنة، وخصومه المفتَرضون من السنّة. والبطريرك ليس بـ"الأحمر"... وفضيلة هذا النقاش حول أحقيته بوصفه رجل دين في قيادة المسيرة أم لا، أنه ذكّرنا بالنسيان.