لاجئون في بلادهم

لاجئون في بلادهم

30 يوليو 2023
+ الخط -

لماذا لا يرغب 94% من اللاجئين السوريين في الأردن بالعودة إلى بلادهم؟ وردت هذه النسبة في استطلاع أجرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حتى لا يقال إنّ الأرقام مدسوسة أو غير مستندة إلى معطياتٍ علمية، بهدف تشويه النظام السوري، وتلويث سمعته، وإن كان ذلك لا يضيره، فعليّاً، لأنه يعرف جيداً أنّ التشوّه طاوله حتّى قبل أن يشوّه شعبَه بالبراميل المتفجّرة، ومن سمة المشوّهين داخليّاً أنّهم يبحثون عن توازن موضوعي مع العالم المحيط عبر تشويهه، لا بمحاكاة أخلاقه والاستفادة من استقامته.

النسبة مهولة، حقاً، وصادمة، ويزيدها دهشة أنّها تعبّر عن رأي لاجئين سوريين في بلدان عربية، لا أجنبية، لم تمنحهم ما منحه الغرب لهم من حريات، ومن مستويات أرقى في سبل العيش ورغده، فاللاجئون في الأردن يعانون شظف الحياة كأقرانهم من المجتمع المضيف، وبالكاد يؤمّنون كفاف خبزهم، فلماذا لا يختارون العودة ليعيشوا الكفاف نفسه في وطنهم، وبين أهليهم، ما دامت الحال واحدة؟ والأهمّ لماذا يرفضون ما دامت الحرب قد انحسر أوارها في بلادهم، وصار مُتاحاً لهم استئناف ما انقطع من حياتهم وسبل عيشهم؟

أيضاً، لماذا لا يفكّرون بالعودة، ما دامت أيام الضيافة في بلاد اللجوء قد انتهت، وتصاعدت مقابلها نغمات التبرّم والتأفف، على غرار ما يحدث في الأردن، وما يرد على لسان وزير خارجيته، أنّ "الأردن لم يعد يتحمّل"، وأنّ "حلّ مشكلة اللاجئين السوريين لا يكون إلّا في بلادهم"، فضلاً عمّا يحدث في تركيا التي تشهد حملات تضييق وعنصرية مهينة بحقّهم، توازياً مع مناخ شعبي عدائي لم يكن يوماً مرحّباً بوجودهم، فلماذا يقبلون على أنفسهم كلّ هذا الإذلال الذي يهون دونه الموت في بلادهم، وفق فلسفتنا نحن الذين نرى المشهد من خارج إطار المحنة؟

على الأرجح، ستظهر اجتهاداتٌ شتّى، من محلّلين ومنظّرين، أبسطها أنّ اللاجئين يريدون "ضماناتٍ" حقيقية تحفظ عليهم حياتهم في بلادهم، وتجنّبهم عمليات الانتقام والثأر التي ربما تلحق بهم بعد عودتهم من نظامٍ حقود يعدّ المهاجر عدوّاً، لأنّه لم يذعن للبطش، ولم يخضع للرصاص، هذا على الرغم من أنّ معظم اللاجئين مدنيون، لم تكن لهم مع النظام ثارات وضغائن، ولم يُحسبوا على صفوف المعارضة والمناوأة، ولا تعنيهم السياسة بشيء.

وربما يقال أيضاً إنّ الرعب الذي شهده المهاجرون في بلادهم كان من الهوْل الذي ترك في نفوسهم ندبة أضخم من أن يجرؤوا على معاودتها مرّة أخرى، لا سيما من نظامٍ مهيأ لهذا التكرار، مع بقاء أدواته ونهجه على حالهما.

كل الإجابات صائبة في ما يتعلّق بحكام سورية، غير أنّي أميل إلى تفسير أشمل من ذلك كله، وأرى أنّ سبب إحجام المهاجرين السوريين الذين يمثلون نصف الشعب تقريباً عن العودة إلى بلادهم ليس الخشية من عواقب العودة، أو من بطش النظام، فذلك غدا في حكم المألوف بحكم معايشتهم له ردحاً طويلاً من الزمن، وفي وسعهم معاودته هرباً وحفظاً لكراماتهم الجريحة في المنافي العربية والإسلامية، حصراً. ولا هو بسبب البيئات "الجاذبة" في مواضع اللجوء، فهم مطارَدون في لقمة العيش، وفرص العمل، ومحاصرون في مخيماتٍ أشبه بالحظائر. بل لأنّهم يشعرون، فعليّاً، بأنهم ما عادوا قادرين على التعايش مع نظامٍ كهذا. وذلك هو سبب مغادرتهم وطنهم من الأساس، فقد أعلنوا الانفصال عنه منذ انطلاق تظاهرة الربيع الأولى قبل 12 عاماً، وعندما أخفقوا بإسقاطه، بسبب المؤامرات الدولية التي حمتْه ودافعت عنه، آثروا الابتعاد هم هذه المرّة، وارتضوا الهجرة مصيراً، ولن يضيرهم اللجوء في بلاد الآخرين، لأنهم كانوا، أساساً، لاجئين في بلادهم، بلا وزن، ولا قافية، بل محض أرقامٍ في أعين النظام، الذي أعرب عن ارتياحه مرّات عديدة، بالتخلّص من كلّ المناوئين الذين يفسدون "التجانس" المجتمعي.

يبقى ثمّ سؤال أخير: هل قرأ بشّار الأسد هذا الخبر، وكيف استقبله؟ فإن فعل، لماذا إذاً لم ينتحر خجلاً من شعب ترك له الجمل بما حمل؛ وقال قولته الشهيرة: "هذا الوطن لم يعد يتسع لكلينا".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.