كل هذه الاستهانة بالمرأة السوريّة

كل هذه الاستهانة بالمرأة السوريّة

12 يونيو 2022

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

قطعت النساء السوريّات منذ بداية الثورة عام 2011 أشواطاً في مواجهة العنف الذي بات تقليداً ذكوريّاً كرّسته آلة النظام العسكري في سورية طوال نصف قرن، ولمّا أتيحت الفرصة التاريخيّة للانتفاض، نهضن جميعهنّ بكلّ الموروث الاجتماعيّ والثقافيّ والدينيّ، كنّ مشاركاتٍ في الحراك السياسيّ، وفيما بعد، الإغاثيّ منه والمدنيّ، وتعلّمن الحريّة والثقة بأنفسهن، وهذا ما شهدناه في مجتمعات أجنبيّة كثيرة وصلن إليها، ثمّ صعدن إلى الضوء والتأثير بالمجتمع، وكذلك في الداخل السوري. تمزقت الصورة النمطيّة في مناطق كثيرة، إلا أن بعضها، تُمارس فيه عمليات القتل بكتمان أو علانية، مجازيةً كانت أم ماديّةً؛ ضد المرأة ووجودها.

وإذ شهد العالم، أخيرا، كيف تعرّضت اللاجئة السوريّة ليلى محمد، بحسب تقارير إعلاميّة وفيديو موثق؛ للضرب بركلة من رجل تركيّ في غازي عنتاب، ومدى التعاطف الكبير والاعتذار الرسميّ والإجراءات المتخذة بحق المُعتدي؛ ربما لم يلاحظ هذا العالم أن ذلك كله لا قيمة له، لولا التوثيق الذي حصل والضخ الإعلاميّ والتفاعل الإلكتروني المرافق لذلك. وبالنسبة للمرأة المُسنّة التي اتضح أنها تعاني من "خَرَف وعائي"، فإن هذا الأمر قد يحدُث لها كل يوم، سواء كانت الإساءة ضرباً بالقدم أم شتماً بالكلمات، الأمر سيّان، ونحن نبقى متألمين عاجزين، نفكّر لماذا يُضرب المريض إذا كان لا يدرك أنّه مريض وفاقد للوعي، من دون عقل، لا حول له ولا قوة؟

سأحاول أن أحيّد الحملات العنصريّة، وخطاب الكراهية المتصاعد ضد اللاجئين السوريين في تركيا، والذين يعتبرون "ملفاً سياسيّاً" للانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة في تركيا، وستكون تلك الورقة "فرصةً" يلوّح بها الرئيس التركي، أردوغان، من أجل تطوير عملية عسكرية جديدة، شمال سورية، للتوغل بذريعة "المناطق الآمنة"، حيث قيل إن النيّة هي "إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا"، وما سيحدُث من اعتداءات مشابهة في المرحلة المقبلة على لاجئين سوريين هناك. هو نوعٌ من التهيئة النفسيّة والإعلامية للقرار المقبل، ثم جمع مزيد من التأييد من الأطراف اللاعبة في الملف السوري، سيما اللاجئين أنفسهم والفوبيا النامية في نفوسهم والمُحيطة بوجودهم الأمنيّ.

إذا كانت فرصة التحرّر في سورية لم تزل قائمة، فذلك يعتمد، بشكل مباشر، على مدى تفهّم الدور الكبير الذي قد تلعبه المرأة السوريّة في ظل تصاعد لغة العسكرتارية

ومثل ما تعرّضت له المسنّة ليلى للركل من واحد من أهل البلد المستضيف للاجئين، بدافع اتهامها بخطف أو سرقة؛ حسب زعم المُعتدي، تعرّضت أيضاً قبلها أم مروان للذبح على يد زوجها السابق الذي جاء "يغسل العار"، رافعاً يده الملطّخة بدمها في بثٍّ مباشرٍ من ألمانيا، وكذلك قُتلت الشابة مناهل في منطقة بريف دمشق، وهي أم أربعة أطفال تقطن في منطقة النشابية، والسبب أنها "تلاسنت مع زوجها ورفعت صوتها" بحسب ما نقلت قريبة القتيلة، أخيرا، لكاتب هذه السطور، فكان الردّ بضربها بقطعة حديد على رأسها، لتموت وتدفن معها حكاية امرأة كانت تعمل في جمع بقايا الحديد من البيوت المدمّرة بالطيران الحربي في غوطة دمشق، سقطت قتيلة، مثل مئات النساء المقموعات والمغيّبات، وليس آخرهن الشابة آيات الرفاعي التي تتضارب الأخبار عن نجاة زوجها القاتل من العقاب إلا قليلاً.

إذا كانت فرصة التحرّر في سورية لم تزل قائمة، فذلك يعتمد، بشكل مباشر، على مدى تفهّم الدور الكبير الذي قد تلعبه المرأة السوريّة في ظل تصاعد لغة العسكرتارية، بالتوازي مع الذهنيّة التحالفيّة الواقعة بين أطياف المجتمع السوري ومناطقه، فلكل قطاع حليف خارج سورية، له عنفه الخاص ومصالحه الدولية في المنطقة، ولن يهتم هؤلاء كلهم إلى التمزيق الممنهج للفرد في المجتمع، سواء عبر دفع الشباب إلى القتال العبثي المستمرّ بين الأطراف المتصارعة، أو عبر ردّ المرأة إلى المكانة التاريخية المتخلّفة التي تعتبرها طرفاً أعوجَ محتاجاً، يسهُل كسره واستغلاله وتجنيده جزءا، وربما فاعلا، في المشاهد اليوميّة لسطوة العنف أمام صمت العدالة عن القمع والانتهاكات، حيث علّمتنا خيباتنا من سياسيي المعارضة أنّ التحرّر في معظم صوره كان مجرّد تجارة ولاءات ومناصب واستخدام المرأة كان أحد تلك الأدوات المهينة للوصول إلى الغايات.

تقرير صدر أواخر 2019: نحو 28076 أنثى قُتلن في سورية منذ مارس 2011، و84% منهن فقدن حياتهن على يد قوات النظام وحلفائه

إذا كانت الفردانية، بوصفها مخلّصا لرفع الصوت عالياً، هي بمثابة موقف أخلاقي؛ فإني أعتبر أنها أحد الوسائل الباقية والمتاحة أمامي لوضع قضية استسهال قمع المرأة السورية، بكل المعاني، أمام أعين كل من يدّعي الثوريّة والمساواة، أفراداً ومؤسساتٍ ناطقين باسم الثورة، في الداخل والخارج، إذ لن يكون منصفاً أن تبقى ذهنية العسكر الموروثة من نظام الأسد، بعد أكثر من عشر سنوات، متبلورةً في مكاتب ومقرّات وأفكار وخطاب وأفعال من يسعى لتخليص السوريين من ذهنية الذكورية المصقولة بالبندقية والدبابة والبراميل المتفجرة والعنف المضادّ، استخدام المفردات القاتلة ذاتها، حسم النتائج بالقوة. ألا تعيدنا الركلة التي تلقتها ليلى محمد إلى نقطة البداية؟ لماذا كانت امرأة مسنّة، لديها ظرف صحي خاص ومشكلات نفسية وعقليّة حادّة، تتسوّل في مدينة تعجّ بآلاف السوريين والسوريّات؟ لماذا لم ترعها عشرات الجمعيات والمنظمات "الخيريّة" و"الدعويّة" المدارة من اللاجئين السوريين أنفسهم؟ بمنتهى البساطة؛ لأن ليلى وأخواتها يذكّرننا بذلك الفهم الراسخ في عقول الأغلبية؛ أنها امرأة وليست رجلاً "لا يعيبه شيء" والوحشية المختبئة في غضبها، تخرُج في أعظم صورها، دموعاً وألماً يركلنا على وجوهنا، لعلنا نستيقظ من خدر لا مبالاتنا بشؤون أهلنا في المنافي، وخصوصاً هؤلاء النساء، أمهات وأخوات وأرامل، معنّفات ووحيدات ومحرومات من حقوقهن، قابعات في سجون الخوف النفسي من الآخر، رجلاً كان أم عادات وتقاليد كرّسها نظام فاشي.

في سورية، ما زالت قوة الدين السياسية، ومواد القانون "الرسمي" التابعان للنظام، لهما الدور الأبرز في تقوية مظاهر تعنيف المرأة، والتي وصلت إلى درجة القتل وتكريس ذلك على أنه حقّ مشروع تقريباً، وأخيرا، حاول النظام إسكات بعض الأصوات في الداخل، بعد إزالة مزعومة لمادّة من القانون تنصّ على حذف مفهوم "العذر المُخفّف" لمرتكبي ما تسمّى "جرائم الشرف"، وكان ذلك في أوائل عام 2020، إلا أن تقريراً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، صدر أواخر عام 2019، أشار إلى أن نحو 28076 أنثى، قد قتلن في سورية منذ مارس/ آذار 2011، وأن 84% منهن فقدن حياتهن على يد قوات النظام وحلفائه، فلا أعلم إذا كان قانون الغاب ذاك سيضمن للمرأة السورية في الداخل فرصاً للنجاة من هذه المأساة العميقة التي نخفي وجوهنا عنها يوماً بعد آخر، وما زلنا ندفع ثمنها في بلدان اللجوء، صراعات على الحرية والحقوق وركلات بمختلف الأشكال على ما حمّله لنا نظام حافظ الأسد.