ملامح تحالفات مُمَزِّقة لسورية

ملامح تحالفات مُمَزِّقة لسورية

19 ديسمبر 2022
+ الخط -

نشرت صحيفة عربيّة أخيرا على صفحتها الأولى تصريحاً لنظام دمشق، الذي يدّعي تمكّنه من قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، العراقي أبي الحسن الهاشمي القرشي، في منطقة جاسم، قرب درعا، جنوب البلاد، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويرجّح أنّ نظام الأسد يحاول أن يبرُز أمام الرأي العام، مجدّداً، عدواً للتنظيم المتطرّف (...) كأنّه يشير إلى توافق ضمنيّ مع مهمة التحالف الدوليّ لقتال "داعش"، إلى جانب دعم الأكراد شمال سورية كجزءٍ من المهمّة. 
ويأتي السؤال هنا: لماذا يحتفظ هذا التحالف الذي تتزعمه واشنطن بآلاف المقاتلين وأسرهم من تنظيم داعش في معسكراتٍ تحرُسها المليشيات الكرديّة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟ وسؤال آخر: متى يمكن محاكمة هؤلاء المقاتلين المتطرّفين وكشف هوياتهم، كيف وصلوا إلى سورية، من سهّل تجنيدهم؟ لأننا نشعر، بعد قراءة أخبار عودتهم تدريجياً إلى بلدانهم؛ وكأنهم جاؤوا في سياحة حربيّة إلى سورية، ثمّ تكفّلت حكومات بلدانهم باستعادتهم! 
هناك استخدامات متعدّدة لهذا التنظيم في صراعات سورية، لعلّ أكثرها تخويفاً للسلم الأهليّ هو لغة المُفخّخات؛ ذبح البشر على الهواء مباشرةً بقصد تكريس ثقافة الرّعب ودمجها بالتطرّف الدينيّ، وإضفاء الشرعيّة على دعم الكيانات المُقاتلة ضدّ هذا التنظيم، أيّاً كانت توجهاتها القوميّة. الأهمّ تبعيتها التامّة لقوات التحالف الدوليّ، بالضبط كما حدث مع المليشيات الكرديّة شمال سورية، واليوم نشهد كيف يجري التخطيط دولياً لتغيير التحالفات، المقصود هنا التهديد التركيّ بالقضاء على مليشيات "قسد"، المدعومة أميركيّاً.

بات الكيان الكرديّ الذي دعمته الولايات المتحدة اليوم على محكّ عملية تركية قد تجتثّه مجدّداً في العمق السوريّ

كانت الولايات المتحدة ولا تزال تنظر إلى حِراك الثّورة السوريّة من باب المصالح الإقليميّة، تماماً مثل بقيّة اللّاعبين في الملف السوريّ: تركيا، روسيا وإيران، وإسرائيل. إنّها مهتمّةٌ قبل كلّ شيءٍ، ميدانيّاً، بمصادر الطاقة، لأن جزءاً كبيراً من نفط سورية وكهرباء سد الفرات يقع تحت يد الأكراد، وبيع الأسلحة واختبارها في معاركهم، إضافة إلى اللعب بورقة الجغرافيا الحدودية وتوترها؛ إذ تقع المناطق التي تسيطر عليها مليشيات "قسد" على حدود طويلة مع تركيا، وهذه الأخيرة على صراع مستمر مع أيّ كيان كرديّ لا يتبع لها. وهكذا تصبح "قسد" كياناً عسكريّاً وسياسيّاً، تلوّح بها الولايات المتحدة في المنطقة لضمان تفاهماتها، مع المحافظة على "خطر" داعش، الآمنة، من دون محاسبة، بينما نشهد، بين حين وآخر، مطالبة علنيّةً بسحب الدول أعدادا من رعاياها في صفوف المقاتلين ضمن "داعش"، والموجودين على تراب مخيم الاحتجاز في منطقة الهول وما حولها، شمال سورية. 
إذاً، بات الكيان الكرديّ الذي دعمته الولايات المتحدة اليوم على محكّ عملية تركية قد تجتثّه مجدّداً في العمق السوريّ، وإنّ رئيس تركيا، رجب أردوغان، أشار إلى ذلك بشكل واضح، قائلاً: "أرسلت واشنطن بين أربعة إلى خمسة آلاف شاحنة أسلحة، ورغم حديثي عن ذلك مراراً لا يكترثون، ولذلك سوف نقتلع شوكنا بأيدينا".
يُعتقد أنّه سيتم تقليص أثر هذا الكيان على مستوى الوجودين، الميدانيّ والسياسيّ، وهذا ما نستنتجه من لقاء تشاوريّ جرى، أخيرا، بين الرّوس والأتراك في إسطنبول، لقطف ثمار العملية العسكريّة قبل قيامها! وفحواه إعادة إنتاج العلاقة بين النظام السوريّ وتركيا عن طريق انسحاب كامل لمليشيات "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) من منبج وعين العرب، والإبقاء على قوات الأمن الداخلي الكردية (الأسايش) ودمجها مع قوات أمنيّة تابعة مباشرة لنظام لأسد، إضافة إلى وضع شخصيات توافقية تريدها تركيا وروسيا في قيادة تلك المناطق، وهنا السؤال: ما هو دور الولايات المتحدة بهذا التشاور؟

طالما، دخلت تركيا بمفاوضات مع الروس بشأن عمليتها العسكرية، سوف تقدّم لهم شيئاً مقابل هذا التنسيق الأمنيّ والعسكريّ

ربّما سوف تهتم الولايات المتحدة بوجودها العسكريّ، متمثلاً ببعض القطعات العسكرية من الجيش الأميركيّ في سورية إلى جانب مليشيات "قسد"، ولكن أماكن وجودهم قد تتحوّل إلى مسافات بعيدة عن الحدود مع تركيا، تضمنها روسيا، أمّا إذا لم تجد بداً من التصرف فقد تعيد إطلاق تنظيم داعش لتجد أسباباً بالتدخل في المنطقة بشكل جدّي حسب ما يتناسب مع سياساتها تحت مظلمة التحالف الدولي و"أمنها القومي". وهذا ليس واردا حالياً، نظراً إلى قلّة اهتمام الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالملف السوريّ. 
وطالما، دخلت تركيا بمفاوضات مع الروس بشأن عمليتها العسكرية، سوف تقدّم لهم شيئاً مقابل هذا التنسيق الأمنيّ والعسكريّ كما جرت العادة، وقد نشهد تكثيفاً لقصف مواقع تابعة لتحرير الشام، المتحالفة مع تركيا في إدلب، الأمر الذي سيخفف من وطأة المتابعة الإعلاميّة للغزو الروسي لأوكرانيا حسب ما هو مُلاحظ، وسيدعم ذلك النظام أمام مواليه، كما أنه سوف يضعف القوات المحسوبة على الثورة السوريّة وأبرزها فصائل تحرير الشام، وبالتالي، تعزيز تمدّد قوات النظام ومن خلفها روسيا وإيران وإضعاف الأكراد بما يكفي ليكونوا تحت مظلّة النظام - روسيا. 
من جهة أخرى، كانت تقارير إعلاميّة قد كشفت تواطؤاً غير مباشر من النظام السوريّ لتسهيل حركة تنظيم داعش خلف الكواليس؛ بأمان بين مناطق سيطرته، مثلاً ما حدث في تدمر بين عامي 2015 و2017، ودرعا ومخيم اليرموك سابقاً، وكيفية وصول التنظيم، بشكل غير مفهوم، إلى تلك المدن والمناطق، ما نجم عن ذلك تبرير لسحقها من قوات النظام وحلفائه، أي أن ذلك الكيان المتطرّف يبدو مخترقاً أمنيّاً وباستمرار، كونه مادّة جاهزة لتبرير معظم أفعال التدمير في سورية، من دون أن يكون واضحاً كيف ولد فجأة؟ وما الذي أوصله إلى بقاعٍ لا يوجد فيها، أصلاً، لأي كيان عسكريّ يتحالف معه أو حاضنة اجتماعية لهم؟ 

يحاول للنظام السوريّ عبر استغلال سمعة قتال "داعش" الظهور في تحالفٍ "ضد الإرهاب" من تحت الطاولة

من هنا، يحاول للنظام السوريّ عبر استغلال سمعة قتال "داعش" الظهور في تحالفٍ "ضد الإرهاب" من تحت الطاولة، بعد زعمه قتل قياديّ في درعا، وبعد بضعة أيام يعلن الجيش الأميركيّ أنّه قتل أيضاً قياديين في "داعش" أحدهما يدعى أبو هاشم الأموي، شمال سورية. 
أضف إلى ذلك التنسيق الأمنيّ، ظهور الوساطة مع النظام إلى العلن، والتي نقرأ مثالاً عليها حضور تحرّكات لسلطنة عُمان في سورية بشكلٍ ملحوظ دبلوماسياً وثقافياً، عبر أنشطة مجتمعية، لعلّ جديدها أخيرا احتفال غطته وكالة الأنباء السورية الرسمية التابع للنظام، عن العيد الوطنيّ للسلطنة في مقر سفارتها بدمشق، حيث حضرت الحفل بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد مع وزراء من حكومة النظام. وقبل ذلك بأسابيع قليلة زار وزير الخارجية العُماني، بدر بن حمد البوسعيدي، الأسد، في دمشق، ثم توجّه إلى طهران في الفترة نفسها للقاء مسؤولين هناك بخصوص البحث عن رهائن أميركيين، يحتجزهم النظام، ولكن الأخير نفى ذلك عبر صحيفة الوطن شبه الرسمية. 
ما سبق يحيلنا إلى أن أولوية النظام اليوم هي إعادة المساهمة في تركيب خريطة للتحالفات في سورية، على أن تكون أكثر قرباً من سياساته، ولو عبر الوساطات ومزاعم مكافحة الإرهاب الدوليّ، لكن الميدان متروكٌ تماماً لتفاهمات روسيا التي أعلنت عملياً عبر رئيس مجلس الدوما اتفاقها مع أردوغان على مؤتمر قريب لمكافحة الإرهاب. يهتم هؤلاء لأمر المساحات الأوسع وتوافق الحلفاء، أي شمال سورية، لذلك نراهم ينسّقون مع الأتراك، وقد يكون لغياب الدوريات الروسيّة واحتواء الموقف الأهلي في السويداء، دوراً في انفجار الأوضاع أخيراً هناك، نظراً إلى سوء التقدير المتنامي في سياسة النظام مع الاحتجاجات والتي أوصلت سورية إلى ما هي عليه اليوم من تمزيق ودمار. إنها نتيجة إهانة كرامات المواطنين والاستخفاف بمطالبهم والتعامل معهم بفوقية عسكرية، جاءت على كلّ ما في هذا البلد من فرص للحياة الكريمة والتغيير الجاد، وحوّلته إلى ساحة عالميّة لاقتسام المصالح الإقليميّة للدول اللاعبة والمستمرة بتقطيع سورية.