في عودة سيف الإسلام إلى المشهد الليبي

في عودة سيف الإسلام إلى المشهد الليبي

22 اغسطس 2021
+ الخط -

مضى أكثر من عشر سنوات على الانتفاضة الليبية التي أطاحت نظام والده الذي استمر 42 سنة، وأدت الى اعتقاله بالقرب من مدينة أوباري الليبية الصحراوية، في موكب صغير في أثناء محاولته الفرار جنوباً باتجاه النيجر. على الرغم من هذه المدة، والتي شهدت ليبيا فيها تقلباتٍ كثيرة ألقت بظلالها على كل مناحي الحياة، لا يزال سيف الإسلام القذافي يحظى بدعم لا يستهان به من شريحة كبيرة من الليبيين، تتزايد باستمرار، خصوصا بين المصابين بمرض النوستالجيا، لأنهم يرونه قادرا على انتشال البلد من الفوضى التي تعيشها منذ أكثر من عقد.

سقط نظام الوالد، وسقط المقرّبون منه، فقُتل من قُتل، وألقي القبض على بعضهم، وفرّ كثيرون إلى دول الجوار. أما مصير الابن، والذي كان يُعد ليكون خليفة والده فقد بقي مجهولا. اعتقلته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، جماعة مسلحة تتبع مدينة الزنتان، غير أن هذا لم ينته إلى معرفة أي تفاصيل عن مكان وجوده وظروف احتجازه، سوى تسريب صور التقطت له في أثناء القبض عليه في الصحراء الليبية، وتطمينات له بمحاكمة عادلة سجّلها وبثّها الأفراد الذين اعتقلوه، وصور أخرى وثّقت نقله جوا إلى مدينة الزنتان التي احتجز فيها. ومنذ ذلك اليوم، لم يظهر للعيان إلا في تسجيل مرئي قصير عند عرضه على المحكمة التي عقدت في المدينة في 2013، والتي اتُهم فيها بتهمة المساس بأمن الدولة، على خلفية مخالفة قانونية ارتكبتها محامية أسترالية اعتقلتها السلطات الليبية حينئذٍ بتهمة محاولتها تسليم سيف الإسلام قلماً، هو كاميرا، غير أن الأمم المتحدة تدخلت ليتم الإفراج عنها بعد شهر من اعتقالها.

حاولت روسيا أن تلعب دور الوسيط بين خليفة حفتر وداعمي ترشّح سيف الإسلام

وجدير بالذكر أن معظم الحكومات التي توالت على إدارة شؤون البلاد طالبت مرّات عدة بتسليم سيف الإسلام إلى طرابلس، ليخضع للمحاكمة عن التهم الموجهة إليه، والمتمثلة في التحريض على إثارة الحرب الأهلية، وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين، وجلب المرتزقة والإضرار بالمال العام، إلا أن الكتيبة التي كانت تحتجزه في الزنتان كانت ترفض التسليم في كل مرّة، معللة ذلك بعدم وجود حكومة مركزية قوية في البلاد، يمكن لها أن تضمن سلامته، الأمر الذي أدّى إلى صدور حكم غيابي عليه بالإعدام في 28 يوليو/ تموز 2015، بعدما دانته محكمة جنايات طرابلس، في حكم نقضته المحكمة العليا في ما بعد، مشيرة إلى أن الحكم انتابه قصور في التسبيب، وفساد في الاستدلال، وخطأ في تطبيق القانون، حسب الحيثيات التي أوردتها هذه المحكمة في قصور حكم محكمة الجنايات، وأمرت بإعادة المحاكمة.

ولم تكتف كتيبة أبو بكر الصديق التي تتولى حماية سيف الإسلام برفض تسليمه، بل أعلنت، في العام 2017، إطلاق سراحه، معتمدة في ذلك الإجراء على قرار العفو العام الذي أصدره البرلمان، معلنة أنه أصبح حرّا طليقا وغادر الزنتان. ثم اختفى الرجل، واختفت معه أخباره، فلم يُر أو يُسمع عنه شيء، ما جعل ليبيين كثيرين يُرجّحون فرضية موته، بل صرّحت منظمة هيومن رايتس ووتش أن لا دليل على أنه لا يزال حيا، غير أن كثيرين اعتبروه صفحةً طويت، وسقطت بسقوط والده.

لم يكن الصراع الليبي المتواصل في منأىً عن التدخلات والتجاذبات الخارجية

استمر اختفاء سيف الإسلام، وظل مصيره غامضا، إلى أن نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقابلة نادرة معه، أجراها الصحافي روبرت وورث، الذي أكد أنه زار محدّثه في مقر إقامته في مدينة الزنتان، وأنّه حر طليق، ويرتب لعودته إلى الساحة السياسية، خصوصا أنّ "المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهم الثورة، وأدركوا في نهاية المطاف انه قد يكون حليفا قويا لهم"، حسب ما نقل الصحافي عنه. وقد أثارت المقابلة التي نشرتها الصحيفة الأميركية الشهيرة مرفقةً بصورة حصرية لسيف الإسلام، جدلا واسعاً داخل الأوساط الدولية والليبية، الشعبية منها والرسمية. وتفاوتت الآراء بين مصدّق للزيارة والمقابلة ومشكك فيهما، سيما أن الصورة المصاحبة، والتي كتب الصحافي أن إقناع سيف الإسلام بالتقاطها لم يكن سهلا تبدو مختلفة كثيراً عن ملامح صاحبها التي عرفها الليبيون، وأنها كانت أقرب إلى ملامح شقيقه الساعدي، والذي هو قيد الاعتقال. ورسّخت الشكوك قناعة بعضهم بأن سيف الإسلام لقي حتفه منذ سنوات، وأن الزنتان (20 كيلومتراً مربعاً، و40 ألف نسمة) لا يمكن لمجموعة مسلحة فيها إخفاء شخصية بهذا الوزن عن أنظار ساكنيها على أقل تقدير. والمدينة مسقط رأسي، وقد تزامن نشر المقابلة الصحافية مع وجودي في زيارة عائلية إليها. والتقيت فيها بشخصيات عامة ومسؤولة عديدة، لعلّي أجد إجابة شافية عن حقيقة وجود سيف الإسلام داخل حدودها، والجهة التي تتولى حمايته منذ أكثر من عشر سنوات، من دون أن يحدث أي خرق أمني أو استخباراتي لشخصية يسعى الجميع إلى الوصول إليها. وتباينت الإجابات، واختلفت الروايات، لكنّ القاسم المشترك بينها جميعا أنه لا يزال على قيد الحياة، ولا يزال يقيم داخل المدينة، ولم يغادرها رغم إطلاق سراحه، لكن قلة فقط يعرفون مكانه بدقّة، ويبدو أنه، حسب كثيرين، يتنقل بين عدة أماكن ومنازل داخل المدينة، وقليلون منهم يعرفون الجهة التي تحميه وتتولى حراسته.

ليست أمرا جديدا عودة سيف الإسلام القذافي فجأة إلى المشهد، ورغبته في اعتلاء كرسي رئاسة ليبيا، فكثيرون من أنصار نظام والده ينتظرون هذه العودة، ويعتبرونها الحل الذي قد ينهي هذه الانقسامات، ويضع حدا للصراعات التي لم تتوقف منذ سنوات، غير أن معطيات كثيرة، ما بين تاريخ اعتقاله قرب أوباري وظهوره عبر صحيفة أميركية من الزنتان، تغيرت، وتداخلت معطياتٌ كثيرة، وفرضت قوى جديدة وجودها، بالحرب والسياسة، وانقسمت ليبيا إلى معسكرين، وتوزّع دعم معظم الليبيين ومناصرتهم بينهما. واستطاع معسكر خليفة حفتر أن يستوعب كثيرين من أنصار النظام السابق (عسكريين ومدنيين). وبالتالي، لم يعد كسب ولاء هذه المجموعات أمرا سهلا، أو على الأقل لم يعد تحصيل حاصل، الأمر الذي يمهد لمرحلة جديدة تختلط فيها الأوراق، ويُفتح فيها الباب أمام صراعاتٍ وتحالفات جديدة، ستزيد من صعوبة الخروج من الوضع المتأزّم الذي يعيشه الليبيون منذ أكثر من عقد.

كثيرون من أنصار نظام القذافي ينتظرون عودة سيف الإسلام، ويعتبرونها الحل الذي قد ينهي الانقسامات

ولا يختلف الوضع الخارجي كثيرا عن التجاذبات الداخلية، بل يعتبر الداعم والمحرّك لها في أحيانٍ كثيرة. ولم يكن الصراع الليبي المتواصل في منأىً عن التدخلات والتجاذبات الخارجية. ولهذا لن يكون موضوع سيف الإسلام وظهوره وإمكانية ترشحه استثناء من هذه التدخلات. وقد تباينت ردود الفعل وفقا لمصالح هذه الأطراف، ورؤية موكليها في الداخل. ويبرز هنا الدور الروسي الذي أشار إليه الصحافي وورث صراحة، إذ كتب أن دبلوماسيا أوروبيا، ذا خبرة في الشأن الليبي، أخبره أن الروس يعتقدون أن سيف الإسلام القذافي قد يفوز في الانتخابات... وهذا دور لم تخفه روسيا في السابق، عندما حاولت أن تلعب دور الوسيط بين حفتر وداعمي ترشّح سيف الإسلام، إلّا أن تعنت حفتر ورغبته الجامحة في الوصول إلى الحكم وفي إبعاد أي شخصية يمكن أن يكون لها قاعدة شعبية، حالا دون نجاح تلك المساعي، بل وصلت الأمور إلى اتهامه بمحاولة تشكيل فريق يعمل على الوصول إليه واعتقاله في مخبئه في الزنتان.

وما بين مرحب بعودة سيف القذافي ومنتظر وداعم ترشّحه ومن يرى أن هذا سيعيد ليبيا إلى المربع الأول من الديكتاتورية التي دفع الليبيون الكثير للتخلص منها، يظل انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة سيد الموقف، خصوصا بعدما أصدر المدعي العام العسكري أمرا بالقبض عليه!