في خطورة تحوُّل فاغنر إلى جيشٍ تحت الطلب

في خطورة تحوُّل فاغنر إلى جيشٍ تحت الطلب

09 يوليو 2023
+ الخط -

لم تكد قوات فاغنر العسكرية الروسية الخاصة تستقرّ في منفاها الذي كُشف أنه معسكر مهجور للجيش البيلاروسي، جُهِّز على عجلٍ ليستضيف مقاتليها، حتى ظهر خبر أن الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، طلب منها تدريب قوات بلاده المسلحة. ولهذا الخبر حيثياتٌ ودلالاتٌ، أهمها أن هذه القوات التي اعتمد عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تحقيق انتصارات لبلاده في حربها على أوكرانيا، وقبلها تعبيد الطريق أمام مدّ نفوذها الدولي، لم تُرسل إلى هذا المنفى لكي تتقاعد، بل إن أدواراً مقبلة ربما تنتظرها. وإذا كان من المحتمل أن الاتفاق الذي جرى بين بوتين و"فاغنر"، وأدّى إلى إنهاء تمرّد هذه المجموعة، قد نصَّ على احتفاظها بقوامها القتالي لتحتفظ بلياقتها القتالية، مع توافر إمكانية لاستمرارها بالتدريب على أسلحةٍ جديدة، فإن هنالك خطورة في أن تتحوّل إلى جيش تحت الطلب، تلجأ إليه دولٌ أو أنظمة ترى فيها سنداً في حربها الداخلية أو عملياتها العسكرية وحروبها الخارجية.

في هذا السياق، يمكننا التمعّن في مغزى تصريح قائد المجموعة، يفغيني بريغوجين، بعد أيام من مغادرته مدينة روستوف الروسية التي استولى عليها خلال ساعات، أن قواته "تعد الأكثر خبرة في روسيا وربما في العالم". ويكاد هذا التصريح أن يكون بمثابة دعاية لتسويق قواته وعرض خدماتها على من يدفع. ولم ينسَ إضافة معلوماتٍ عن خبرتها في ساحات القتال الدولية وانتصاراتها التي حققتها في أوكرانيا، إذ قال إن مجموعته "تنفّذ مهام عديدة لصالح روسيا، في أفريقيا والدول العربية ومناطق أخرى". كذلك ظهرت أنباء عن أن بوتين خيَّر المجموعة بين المغادرة إلى بيلاروسيا أو الانضمام إلى القوات الروسية أو عودة عناصرها إلى منازلهم، غير أن المجموعة فضّلت المحافظة على كيانها عبر التجمّع ضمن معسكر واحد يضمن لها البقاء قوة ضاربة تحافظ على مستواها القتالي، وربما القدرة على التخطيط لليوم التالي. ومن خلال المعرفة بطبيعة القوات العسكرية الخاصة المماثلة "فاغنر"، نستطيع توقّع شكل اليوم التالي الذي تحافظ هذه القوات على جاهزيتها لتكون مستعدّة له، وهو الانتقال إلى جبهات جديدة.

يبدو أنّ مجموعة فاغنر ستبقى على ما هي عليه، ولن يكون مصيرُها الحلّ، وكذلك لن تعاني من التعطل

ومن ناحية الموقف الرسمي الروسي من مصير المجموعة، اتضح أنه ليس لدى الكرملين نية بالتخلص منها عبر اغتيال قادتها وتشتيت عناصرها، بل ربما إضعافها وجعلها مطواعةً أكثر وادّخارها ليوم يُحتاج فيه إلى خدماتها. وقد أتى التلميح إلى استمرار "فاغنر" في الوجود من مستوى عالٍ في الكرملين، من وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، نفسه، الذي تحدّث عن أفرعها في العالم، وعن احتفاظها وحدها بالقرار بشأن مستقبل هذه الأفرع، خصوصاً في أفريقيا. إذ قال لافروف: "مصير الترتيبات بين الدول الأفريقية ومجموعة فاغنر أولاً وقبل كل شيء مسألة تخصّ حكومات الدول المعنية ما إذا كانت ستواصل هذا النوع من التعاون أو لا".

إذاً، يبدو أن هذه المجموعة ستبقى على ما هي عليه، ولن يكون مصيرُها الحلّ، وكذلك لن تعاني من التعطل، فإذا كانت موسكو قد استشعرت منها خطراً مُحدقاً، فإن مينسك قد ترى فيها فرصة. ولا يبتعد طلب الرئيس البيلاروسي منها تدريب قواته عن الطابع التصالحي، خصوصاً حين قال عنهم إنهم "أناس قاتلوا في جميع أنحاء العالم لتأسيس حضارة". وربما للرجل خطط لأن يجعل لبلاده موقعاً دولياً عبر امتلاك القوة، شأنه في ذلك شأن روسيا ورئيسها بوتين الذي أراد من غزوه أوكرانيا أن ينصِّب بلاده قطباً موازياً للقطب الأميركي. ولوكاشينكو الذي أعلن أواسط مايو/ أيار الماضي أن بلاده استلمت أسلحة نووية من روسيا، وأخذ يتباهى بقوّتها التي قال إنها تفوق ثلاث مرّات القنبلتين اللتَيْن ألقيتا على اليابان، سيكون ممتنّاً إذا ما تكاملت لديه أسباب القوة عبر "فاغنر" التي ستدرّب جيشه، وقد تقوم بخدماتٍ أخرى تزيد من هذه القوة. فهل يمكن أن تسير مينسك على خطى موسكو/ وتبحث عن موقع لها تحت الشمس، عبر قوة "فاغنر" الجاهزة للعمل في أي جبهة عمل، خصوصاً لاتفيا وأستونيا وبولندا التي أبدت خشية من وصول "فاغنر" إلى بيلاروسيا المجاورة لها. وفي سبيل هذا الأمر، قد يتناسى لوكاشينكو الخطورة التي شكّلتها "فاغنر" على بوتين، مقابل ما يَعِد نفسه من أمجاد يتوقع أن تحققها له.

قد يتناسى لوكاشينكو الخطورة التي شكّلتها "فاغنر" على بوتين، مقابل ما يَعِد نفسه من أمجاد يتوقع أن تحققها له

أما أميركا، التي باتت تتبنّى الحروب بالوكالة، أو ما تسمّى حروب الجيل الرابع، فقد سادت تخمينات عن احتمال وجود دور لها في تمرّد "فاغنر". وقد ربط محللون بين زيارة سرّية، كشفت "الواشنطن بوست" تفاصيل منها، لمدير المخابرات الأميركية إلى أوكرانيا، في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وبين التحفيز على التمرّد، فهل يمكن لواشنطن أن تجنّد عناصر من "فاغنر" لأداء مهمات في مناطق في العالم، مستغلة أنباء عن نية الكرملين تجفيف مصادر تمويل المجموعة؟ هذه النية التي اتّضحت بعد نقل "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين غربيين أخيراً قولهم إن بوتين يسعى للسيطرة على أكثر من مائة شركة تابعة لفاغنر، وكشفهم أن الأجهزة الأمنية الروسية داهمت مؤسّسات تابعة لها. قد تفعلها واشنطن، وهي التي جنَّدت قوات "بلاك ووتر" الخاصة في العراق وغيره.

مع فقدان بعض الدول حقها، أو احتكارها، استخدام العنف المشروع لصالح المليشيات، من قبيل "فاغنر" وأخواتها من "الدعم السريع" في السودان وغيرها، خصوصاً مع تراجع دور الدولة الذي نشهده في دولنا العربية ودول أخرى، ستزداد أسهم هذه المليشيات ويتعاظم شأنها. وبدلاً من أن تستخدم الدول المليشيات عند الحاجة، قد تفرض هي على الدول أن تشنّ حروباً لتشغِّل عناصرها، حينها تزداد الخطورة وتتعاظم المخاوف من أن تضمحل الدولة وتسود دول المليشيات، الذي يعني، في النهاية، سيادة الفوضى.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.