غداً 4 آب

غداً 4 آب

03 اغسطس 2021
+ الخط -

تصادف غدًا ذكرى انفجار 4 آب ...
لستُ أدري لمَ ننتظر، نحن اللبنانيين، منذ أسابيع، حلولَها ونبدأ عدّا عكسيا لمجيئها. ربما أننا نعتقد أنّ ثمة ما سيحصل حتما، طالما أن شيئا لم يحدث منذ عام. انفجارٌ ولا كل الانفجارات التي عشناها سابقًا، العالم ونحن، قتلى وجرحى ومعوّقون ومشوّهون ومدينة دُمّر نصفُها، ولم يحدث شيء. تدهور وتقهقر وانهيار وخواء وعدم. جسد المرفأ المقطّع ما زال مسجّى على مرأى من الجميع. بطنُه المبقورةُ وأشلاؤه المحروقة وعشبُ البراءة الذي نما فوقه. المرفأ القتيل. تزوره طيورٌ تائهة عمياء لا تطأ أرضه، حيث عشّشت الدماء. مشهدٌ لا يمكن تفاديه، يستحيل إخفاؤه، صراخه الأبكم يُدمي الذاكرة. ومع ذلك، لا عقاب طاول المسؤولين، لا اعتذار، لا شفقة، لا حياء. فجورٌ واحتقارٌ للعدالة، ونفاذٌ من جريمة مثبتة وواضحة وضوح النهار. القاتل يظهر علينا كل يوم بوجهه مكشوفًا، القتلة يصولون ويجولون دونما خشية أو وجل. يواجهوننا بابتساماتٍ ووعودٍ يعرفون قبلنا أنهم لن يفوا بها. حبلُ الكذب هنا يطول ويطول، حتى ليبلغ السماء.
النمل يسير في طريقه. طريقُه مرسوم لا ندري كيف. النمل لا يحيد عن الطريق. يجدّ في جمع رزقه خوفا من قدوم الشتاء، لكنّ الصراصير هي الرابحة، تلك التي تسرق وتفسد وتلهو وتخون. النمل تدوسُه الأرجل، لكنه يستمرّ. نحن بتنا كالنمل. نُمعَس، نُحرَق، نُغرَق، لكننا نستمرّ. ثمّة يد إلهية خفيّة تحرّكنا، تمنحنا هذه الأناة وهذي المقدرة على التحمّل، تمنحنا هذا الخدَر وهذا التنميل. لقد سبق أن حاولنا تقريبا كل شيء. انتفضنا وغضبنا وطالبنا. قطعنا حروبا طويلة وكان الليل سميرنا حين سرنا في وديان وعرة وصعدنا جبالا وعرة، وبردْنا وجُعنا وصمدنا. لكنّ قَتَلَتنا كثر، طرائقهم في الإبادة مخيفة، ولن يقدر عليهم حتى الطوفان. يحتاجون انفجارا أعتى من ذاك الذي دمّر مدينتنا. كأن تجتمع عليهم الآلهة، الشياطين، قوى الطبيعة، قنابلُ نووية بالمئات، تنسفُ وجودَهم وحتى ذكراهم، وتمحوها من هذي الأرض وكأنها لم تكُ.
ما زالت تهطل زجاجا مشظّى في أذنيّ. الصوتُ الراعدُ المخيفُ دام ثوانٍ. حين مالت بنا العمارة يمينا ثم شمالا، لم نفهم، بادئ ذي بدء، ما هي طبيعة هذا الصوت، وقد اعتدنا أصواتا عدة تميد لها الأرض تأتينا من تحت ومن فوق. صرخنا بصوت واحد: ما تراه يكون؟ قصف بالطيران؟ زلزال؟ انفجارٌ/ اغتيال كذاك الذي أودى بحياة كثيرين؟ للوهلة الأولى أصابنا شللٌ. إلى أين نتوجّه، وأي الأمكنة هو الأفضل للاحتماء؟ لم تسعفنا ذاكرتنا أو خبرتنا الطويلة في الحروب لاختيار ردّ الفعل المناسب. "دروسنا" الكثيرة كلّها تبخّرت في الهواء، وإذا بنا دودٌ هشٌ واقعٌ في مصيدة العراء.
أسمع صراخا من حولي. انفجار وقع في مرفأ بيروت، بدأت الأخبار تصل. الصور تأخرت. انقطع بثّ القنوات التلفزيونية، ثم عاد. ما يُرى لا يصدّق. بيروت انفجرت، تكسّرت، احترقت. بلى إنها بيروت ومرفأها الجميل. يا الله. منظر الدمار لا يُطاق، الركام، الناس المدمّاة، الذعر، القتلى، المفقودون، يا الله، أكل هذا الملح لنا؟
اليوم، عشية 4 آب، إذ أستعيد تلك اللحظات المأسوية، أستعيد صوتَ الزجاج الذي استمرّ يهطل حتى غطّى شوارع المدينة بأسرها. مدينة تهطل نثراتِ زجاجٍ اخترقت الأبدان. كِسَرُ الزجاج المهشّم ما زالت تملأ الآذان والأفواه والعيون، وهي سوف تلتمع تحت شمس آب اللاهبة، مضيئةً تلك الذكرى الرهيبة، مُشعلةً القلوب. جُمع الزجاج المهشّم من الطرقات، لملمته المكانسُ والسواعدُ الفتيّة التي هرعت إلى مكان الواقعة. وحده الزجاج الذي اخترق اللحم، استقرّ في الحنجرة وفي الأمعاء، وكسر الأملَ والروحَ معا، لم تبلغْه الأيادي. ولن تبلغَه.
مثلُ هذي الجراح لا تلتئم، فكيف والقتلة ما زالوا يُعملون فيها خناجرَهم المسمومة السوداء؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"