غابو ... الحكاية الأخيرة

غابو ... الحكاية الأخيرة

25 مارس 2023
+ الخط -

"يستيقظ المرء في يوم من الأيام فإذا به شيخ. بهذه البساطة، دونما إنذار. يا له من أمر مذهل"

ماركيز

***

نَشرت، في العام 2022، دار أثر السعودية بترجمة أحمد شافعي مذكّرات عن غابرييل غارثيا ماركيز وزوجته مرسيدس، بقلم ابنهما رودريغو غارثيا، باسم "في وداع غابو ومرسيدس"، وتحكي لمحات إنسانية عن الروائي الكولومبي الشهير الحائز جائزة نوبل للآداب في العام 1982.

ورغم أن ماركيز كتب عن حياته كثيراً، في كتابه الشهير "عشت لأروي"، أو في بعض مقالاته، إلا أن كتاب ابنه يقدّم صورة إنسانية مختلفة، صورة المبدع في مرضه، وعند تجبّر الزمان عليه وعلى زوجته وحب عمره، الناجية من السرطان مرتين، مرسيدس التي أهداها روايته "الحب في زمن الكوليرا" بعبارة شديدة البساطة وشديدة الجمال: "إلى مرسيدس .. طبعاً".

تقدّم المذكّرات صورة اللحظات الأخيرة. عندما غادر غابو عالمنا إلى عالم أرحب.

***

"أعمل بذاكرتي، الذاكرة أداتي وخامتي. لا يمكن العمل في غيابها. ساعدوني"

ماركيز

***

تحكي المذكّرات قصة السنوات الأخيرة لماركيز وهو يعاني من الخرف. سنوات تلاشي الذاكرة رويداً رويداً. وكيف يفقد القدرة على التعبير. كيف تحوّلت رفيقة عمره مرسيدس إلى مجرّد وجه مألوف قد يتعجّب أحياناً من وجوده. وكيف يتحوّل ولداه إلى رجلين غريبين، يستنكر أن يكون قد أنجب من هما في عمرهما.

المذكّرات المكتوبة بعذوبة بالغة، وقد أجاد نقل تلك العذوبة إلى العربية المترجم أحمد شافعي، شديدة الوجع في الوقت نفسه، فالقارئ يخوض مع الحكّاء الأكبر، ماركيز، رحلة الذبول، ويشاهده يتلاشى وهو على قيد الحياة. الرجل الذي كتب رواياتٍ من أعظم الأعمال الأدبية في العصر الحديث يفقد القدرة على إجراء محادثة عادية، فيكتفي بأسئلة عامة آمنة، مثل "كيف الأحوال" و"كيف حال جماعتك"، فإذا تورّط في حديث أعمق من ذلك اضطرب واحتار.

يرجع الخرف بالعقل العظيم ليصبح كأنه طفل. يعجز عن إجراء محادثة بسيطة.

***

"هذا ليس بيتي. أريد أن أرجع إلى البيت. عند أبي. لي سرير بجوار سرير أبي"

ماركيز

***

عندما دخل غابرييل ماركيز المستشفى تحوّل الأمر إلى سيرك، أو نحوه. الشهرة تجعلك تفقد بعض حقوقك الإنسانية. يقول إحسان عبد القدوس في قصّة "يا حبيبي لا تراني بعيون الناس": "النجاح والشهرة ثمنهما أن يضحّي الإنسان بذاته. أن يصبح شيئاً عاماً، كالأتوبيس".

يحكي رودريغو في المذكّرات كيف أن موظفة الاستقبال في المستشفى هلّلت عندما عرفت أن المريض هو الكاتب المعروف. واستأذنت في إخبار أخت زوجها. تعتذر لها الأسرة، فتوافق الموظفة على مضض ألا تبوح بهذا الخبر المهم. غابرييل غارثيا ماركيز مريضٌ عندنا في المستشفى. لكن الناس ستعرف خلال اليوم. وستنتهك خصوصية الكاتب، وتصبح غرفته ممرّاً لإلقاء نظرة على العبقري الخرف الذي يعاني أيضاً من الالتهاب الرئوي. وأمام المستشفى يحتشد الصحافيون. وعند البيت، يتجمّع المحبّون، حتى أن الشرطة احتاجت أن تطوّق المنزل لتضمن لماركيز بعض خصوصيّته عندما انتقل من المستشفى.

***

"لا أحبّ أن أدفن أصدقائي" ماركيز

***

يذوب ماركيز بين يدي أسرته. لم يعد المرض التهاباً رئوياً، من الواضح أنها النهاية. إنه "السأم"، بحسب تعبير الحديث النبوي. المرض الذي لا علاج له. ويخبرهم الطبيب أنها مسألة أيام، بعدما كانت شهورا، وقبلها كانت أعوام. سيموت غابو في أي لحظة. ولأن سيد الحكاية لا يمكن أن يموت موتاً عادياً، يصوّر لنا رودريغو في المذكّرات كيف كانت النهاية شبيهةً بشخصيات القصص والروايات.

مات ماركيز يوم عيد خميس العهد، تماماً مثل أورسولا، شخصيته الشهيرة في "مائة عام من العزلة". في اليوم السابق للموت، يتسلّل طائرٌ إلى المنزل، ويموتُ على الأريكة التي اعتاد ماركيز الجلوس عليها. ولأنه رجلٌ استثنائي، فقد كان اختار لجسده نهاية استثنائية، وطلب أن يحرق رفاته.

ليس لأشهر روائيي القرن العشرين قبر يزار. لكنه ترك لنا حكاياتٍ كثيرةً لا تُنسى.

***

"مشهد دخول أبي حجرة الحرق مذهل يبعث الخدر. يبدو في آن واحد، وعلى نحو مستحيل، ممتلئاً وخاوياً. الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أشعر به يقيناً في اللحظة نفسها أنه ليس حاضراً على الإطلاق. ستبقى أنفذ صورة في حياتي". ... رودريغو غارثيا.