عن تغيير قادم في العراق

عن تغيير قادم في العراق

09 مايو 2023
+ الخط -

لا يمكن أن تجلس في مكان في العراق إلا ويحدّثونك عن التغيير المرتقب، فخلال زيارة خاطفة إلى بغداد لقضاء عطلة عيد الفطر، لم يكن هناك من صوتٍ يعلو على صوت التغيير المقبل، فالجميع متفق على أنه آتٍ، يختلفون فقط في التفاصيل، وكل جماعةٍ تقدم لهذا التغيير عبر سلسلةٍ من الأحداث والمتابعات والمتغيرات التي حصل بعضها وبعضها الآخر قريب جدا، وفق حديثهم.
هناك في بغداد، يمكن لك أن تلحظ حجم اللهفة لدى مختلف شرائح الشعب العراقي توقاً إلى تغيير آخر يحمل لهم بارقة أمل، علما أن غالبيتهم قد لا يدرك أن أي تغييرٍ قسريٍّ أو مسلح لن يجلب للعراق والعراقيين سوى مزيد من الخراب والدمار.
لم تأت تكهنات التغيير وتوقعاته لدى العراقيين من فراغ، فهناك شخصياتٌ كثيرة، سياسية وإعلامية وحزبية، داخل العراق وخارجه، تتحدّث عن هذا التغيير وترسم له عدة سيناريوهات، حتى وصل الأمر إلى تقديم تفاصيل ما يجري التخطيط له في دوائر القرار الدولية، لندن وواشنطن، من أجل تغيير النظام السياسي في العراق، وبالقوة، بحسب ما يقولون.
ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى صفحاتٍ كبيرة ظهرت منذ عام أو عامين على مواقع التواصل الاجتماعي، تتحدّث عن التغيير القادم في العراق، حتى إذا ما جاء حديث ابنة الرئيس الراحل، رغد صدّام حسين، لفضائية عربية، عن عودة مرتقبة لها إلى العراق وعدم ممانعتها من المشاركة في العملية السياسية وترك الخيار للشعب في التصويت لها من عدمه، وأنه سيتم عمل جنازة عسكرية رئاسية تليق بوالدها، ليكتمل المشهد العراقي وتتشكل صورة ذهنية لدى عامة الشعب بأن حديث التغيير لم يعد أماني، ولا هو وعود يطلقها هذا السياسي المعارض أو ذاك الإعلامي الباحث عن الشهرة، وإنما واقع، وأن الجميع في انتظار عودة غودو.

لم تمانع الولايات المتحدة وجود وزراء في حكومة محمد شياع السوداني ينتمون إلى فصائل مسلحة متّهمة بشن هجمات مسلحة على مصالح أميركية

عندما تتحدّث للعراقيين إن هذا التغيير محض أحلام، وإن الولايات المتحدّة لن تخوض مقامرة عسكرية خاسرة أخرى، على غرار ما جرى لها في العراق عقب عام 2003، فإنك لن تجد قبولا لمثل هذا الرأي. هم يحدثونك عن أشياء يقولون إنها وقعت، وبعضهم يتحدّث عن أشياء غريبة تحصل، لا يمكن لها أن تقع من دون أن تكون لها خلفية هنا أو هناك، فعلى سبيل المثال، تضجّ صفحات التواصل العراقي بأخبار رفع تمثالي قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، اللذين اغتيلا بمسيّرة أميركية قرب مطار بغداد مطلع العام 2020، إزالة وقعت بالفعل رغم نفي الجهة المشرفة عليهما بأن الإزالة نهائية، مؤكدة أن التمثالين أزيلا مؤقتا، كونهما من مادة البوركن وسيتم تصنيع تماثيل أخرى لتنصب بشكل دائم.
تحوّلت هذه الأجواء المشحونة بالترقب في بغداد ومدن عراقية أخرى إلى بيئة خصبة للدعايات والإشاعات التي وصلت إلى حد الحديث عن وجود حشود كبيرة من تنظيم الدولة السورية (داعش) في وادي حوران غرب العراق ومناطق في الشمال، تتلقى تدريبات من الولايات المتحدة لتنفيذ الانقلاب المزعوم! وفي الجهة الأخرى من المشهدية العراقية المحمّلة بكل أنواع الغرائبيات والتناقضات، نجد صورة أخرى، فالسفيرة الأميركية ألينا ل. رومانوسكي، تتجوّل في مختلف مدن العراق، وتلتقي بمختلف الشخصيات والفعاليات العراقية، الرسمية وغير الرسمية والعشائرية والاجتماعية والثقافية، والسفارة الأميركية لم تعد تتعرّض لرشقات من صواريخ كاتيوشا تطلقها ما تسمّى "فصائل المقاومة"، بل لم تمانع الولايات المتحدة وجود وزراء في حكومة محمد شياع السوداني ينتمون إلى فصائل مسلحة متّهمة بشن هجمات مسلحة على مصالح أميركية، حتى وصل الحال بالسفيرة الأميركية إلى حضور منتدى سياسي واقتصادي، كان أحد المتحدّثين الرئيسين فيه قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق التي تدرجها واشنطن على لائحة الإرهاب.

ربما هي المرّة الأولى التي حصل فيها تعهد متبادل، ليس بين الشيعة من جهة والأكراد والسنة من جهة أخرى، وإنما بين شيعة السلطة والولايات المتحدة

أكثر من ذلك، تُظهر الولايات المتحدة دعما غير محدود لحكومة السوداني التي تعتبر حكومة "إطارية"، كناية عن "الإطار التنسيقي"، التكتل الشيعي المعروف بموالاته إيران، والذي خسر الانتخابات التشريعية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واعترض على نتائج الانتخابات، ما أجبر خصمه، الشيعي، مقتدى الصدر وتياره الفائز بالمركز الأول، على الانسحاب من العملية السياسية، ليمهّد الطريق أمام "الإطار التنسيقي" ليحلّ محلّ المنسحبين ويشكّل الحكومة.
بين هذا وذاك، يبدو أن هناك طرفا خفيا يجمع ما بين تحليلات المبشرين بالانقلاب المزعوم (وتوقعاتهم وتصريحاتهم) والدعم الكبير الذي تظهره الولايات المتحدة لحكومة "الإطار" والتفاهم الكبير بينهما، فائتلاف إدارة الدولة الذي تشكّل من الإطار التنسيقي وكتلة السيادة "السنّية" والتحالف الكردي، شهد توقيع مضامين اتفاقاتٍ ملزمة. ويبدو أنها كانت بضمانة دولية، قد تكون أميركية، تلزم الطرف الشيعي الذي يرأس السلطة التنفيذية بعدة اتفاقات وشروط، منها الاتفاق بين بغداد وأربيل على حل أزمة الأموال وتصدير النفط، ويبدو أنه اتفاق ماضٍ في طريقه. كما تعهد الطرف الشيعي بسحب المليشيات المسلحة من المدن المحرّرة، وأيضا عودة المهجّرين إلى مناطقهم، فضلا عن ملف التوازن في الهيئات والوزارات العراقية، ودمج المليشيات (فصائل الحشد الشعبي) في المنظومة العسكرية والمدنية وحصر السلاح بيد الدولة، وغيرها من بنود.
نعم ليست المرّة الأولى التي يتعهد فيها الطرف الحاكم في العراق بمثل هذه البنود للشركاء السياسيين، ولكن ربما هي المرّة الأولى التي حصل فيها تعهد متبادل، ليس بين الشيعة من جهة والأكراد والسنة من جهة أخرى، وإنما بين شيعة السلطة والولايات المتحدة. من هنا، قد ندرك حقيقة التغيير الذي يجري في العراق على نار هادئة، والذي قد يأخذ وقتاً طويلا، ولكنه بالمطلق لن يكون على طريقة تدخل عسكري مباشر من الولايات المتحدة، كما يُمنّي بعض العراقيين أنفسهم للتخلص من الطغمة الحاكمة التي ما زالت أحاديث العراقيين في مساءات بغداد عن فسادهم تُدمي القلب وتُحزنه.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...