28 اغسطس 2024
عن تصويت حاملي السلاح في تونس
بعد أخذ وردّ وجدل طويل بين السياسيين وصنّاع القرار وعموم المواطنين، صادق مجلس نواب الشعب في تونس (31 يناير/ كانون الثاني 2017) على السماح للأمنيين والعسكريين بالمشاركة في الانتخابات البلدية والجهوية، وجرى تمرير الفصل المتعلّق بهذا الشأن بأغلبية برلمانية (144 نعم، 3 امتناع، 11 رفضاً). وانقسم التونسيون في موقفهم من هذه المسألة الخلافية إلى من أيّد قرار مجلس النوّاب، واعتبره تحقيقاً لمبدأ المساواة بين المواطنين، وتكريساً لحق أفراد القوّات المسلّحة في انتخاب من يمثلهم ويدافع عن مطالبهم محلياً وجهوياً، ومن رأى القانون الجديد مطيّة لتحزيب الأجهزة الأمنية ولتطييف المؤسّسة العسكرية وأدلجتها، ما يؤثّر سلباً على وحدتها وحياديتها، ويجعلها رهينة التجاذبات السياسية والحسابات الحزبية الفئوية الضيقة. والواقع أن تناول المسألة من منظور حقوقي محض ينتهي بالدارس إلى الإقرار أنّ تصويت الأمنيين والعسكريين حقّ مدني، ينسجم مع مقتضيات تعميم مبدأ المواطنة، وإشراك الجميع في الشأن العام وفي اختيار من يرونه جديراً بتمثيلهم في المجالس المنتخبة، لكن تنزيل المسألة في السياق الاجتماعي ـ التاريخي الذي تعيشه تونس الآن، وهنا يجعل الباحث يتبيّن أنّ المبادرة التشريعية بمنح حاملي السلاح حق الانتخاب مرتجلة، تكتنفها إخلالات عدّة وتحيط بها محاذير كثيرة، ويُخشى من أن تكون لها تداعيات خطيرة، فمن الناحية الدستورية، يعتبر الإذن بتصويت القوّات المسلّحة خرقاً واضحاً لدستور الجمهورية التونسية الذي نصّ في الفصل 18 على أنّ "الجيش الوطني جيش جمهوري، وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط،
يضاف إلى ذلك أنّ التجربة الديمقراطية في البلاد ما فتئت غضّة، ولم يشتدّ عودها بعد، وهي في حاجة إلى إسناد أمني ـ عسكري يحرس مشروع الدمقرطة، ولا يمارس الوصاية عليه، ويساعد على ترسيخ السلم الاجتماعي، وتأمين التداول السلمي على السلطة، بدل تأجيج التنافس عليها والانحياز إلى طرف حزبي دون آخر في طلبها. وعلى الرغم مما شهدته القوّات المسلّحة من تغييرات هيكلية وتحويرات إدارية بعد الثورة، فإنّ وتيرة الإصلاح ما زالت بطيئة، ومطلب بلورة أمن جمهوري ما زال بعيداً، والعقلية السلطوية القديمة ما زالت توجّه سلوك عدد معتبر من حاملي السلاح الذين لم يتشبّعوا بعد بالثقافة
والمرجّح أنّ بعض الأحزاب (آفاق تونس، الجبهة الشعبية، نداء تونس) التي تحمّست في الدفاع عن حقّ حاملي السلاح في التصويت لم تفعل ذلك لغاياتٍ حقوقيةٍ فحسب، بل كانت محكومة بخلفيات سياسوية باعتبارها تطمح إلى استقطاب المنتمين إلى هذا القطاع، لتُحسّن رصيدها الانتخابي على نحو يمكّنها من مزاحمة حركة النهضة، ويعزّز حضورها داخل جهاز القوّات المسلّحة الذي يعدّ 187.705 بين أمنيين وعسكريين وأعوان سجون وجمارك ما يمثل 3.5% من مجموع المسجلين بقوائم الانتخابات (المقدّر بـ 5.308.354 سنة 2014)، وهي نسبة معتبرة يمكن أن تكون وازنةً في معترك التنافس الانتخابي، و ترجّح كفّة حزبٍ على حساب آخر.
في بلدٍ، لم تترسّخ فيه الثقافة الديمقراطية، ولم يستكمل بعد مسار التأسيس للجمهورية الثانية، يبدو الاندفاع نحو التسليم بتصويت حاملي السلاح فعلاً متسرّعاً أملته اعتباراتٌ سياسية بالأساس، وكان في الوسع التمهيد له بسنوات من الإصلاح والحوكمة والتأهيل الشامل والتربية على حقوق الإنسان، حتى لا يؤدّي إلى تداعياتٍ عكسيةٍ، لا تخدم سيرورة الانتقال الديمقراطي في البلاد.