الجيش والثورة في تونس

الجيش والثورة في تونس

03 فبراير 2017

تونسي يقدم ورداً لجندي في العاصمة أثناء الثورة (21/1/2011/Getty)

+ الخط -
لم يكن الجيش التونسي سبباً في اندلاع الثورة، ولم يكن وصيّا عليها، أو قائداً لحركتها، فقد كانت ثورةً مدنيّة بامتياز، قادها الغاضبون من سياسات بن علي الجائرة، وكانت صرْخة احتجاج شعبي عارم ضدّ الدولة القامعة، وشارك فيها تونسيون ينحدرون من جهات مختلفة، وينتمون إلى فئات عمريّة وطبقات اجتماعيّة متباينة، ووجدت تلك الهبّة الاجتماعيّة الشعبيّة لها سندا من المنظمات الحقوقيّة والنقابيّة والأحزاب السياسيّة ومكوّنات المجتمع المدني. ولم يكن المراد الدعوة إلى اعتلاء العسكر سدّة الحكم، بل كانت الغاية استبدال الدولة البوليسيّة التي جثمت على صدور التونسيّين عقوداً عديدة، بدولة ديمقراطيّة عادلة، تضمن للمواطنين العيش في كنف الحريّة والكرامة. وجلّى ذلك شعار "شغل، حرية، كرامة وطنيّة". لكن الثابت أنّ الجيش التونسي لم يصدر بيانا واحدا في إدانة الحراك الاحتجاجي، ولم يقف حجر عثرة أمام اتساع دائرة المظاهرات (17 ديسمبر/كانون الأوّل 2010 ـ 14 يناير/كانون الثاني 2011)، ولم يتورّط إلى حدّ كبير في سفك دماء المحتجّين. ولم تعرب مؤسّسة الجيش عن تمسّكها بقائد القوّات المسلّحة، زين العابدين بن علي، الذي هرب أمام تصاعد الاحتجاجات الشعبيّة. ولم تُبد المؤسسة العسكريّة أسفها لرحيل الرّجل، ولم تبذل جهدا لاسترجاعه أو إخبار الناس بإمكان عودته. بل تخلّى الجيش عن قائده (الرئيس المخلوع) سريعًا، وانصرف إلى ترتيب مقتضيات الانتقال السلمي للسلطة من بعده، وفق ما ينصّ عليه الدستور. واتجه إلى دعم التوجه نحو بناء حكم ديمقراطي/ تشاركي في البلاد.
لم يكن الجيش التونسي إبّان الثورة حريصًا على استبقاء نظام بن علي، أو الانتصار له، بل كان حريصًا على إنجاح الثورة والتمكين لها على كيفيةٍ مَا. ويمكن تفسير هذا الموقف من
المؤسّسة العسكريّة بأمرين: الأوّل، وعي المنتمين إلى جهاز الجيش، وأغلبهم من المنحدرين من الطبقات الاجتماعيّة الهشّة، وغير الميسورة، بحجم ما كان يعانيه أغلب التونسيين من ضنك العيش وضيق الأفق وقلّة ذات اليد زمن حكم بن علي، وتوقّعهم مسبقا إمكان انتفاض الناس عليه. لذلك انحازوا إلى حركة الشارع وتخلّوا عن الرئيس/ القائد. الأمر الثاني: استبشار القوّات المسلّحة بحدث الثورة، لأنّ المرجح أنّها كانت ترى فيه فرصة للتغيير، ونقلة نحو الأفضل بالنسبة إلى واقع البلاد عمومًا، وبالنسبة إلى واقع العسكريّين خصوصًا الذين عانوا طويلاً ويلات التهميش والتجميد على عهد بن علي. وقول الجنرال رشيد عمّار (قائد الجيش) في أثناء اعتصام القصبة (24 يناير/كانون الثاني 2011) إنّ "الجيش يحمي البلاد والعباد والثورة" قولٌ دالّ ومعبّر، كشف بوضوح انحياز الجيش إلى الثورة، بما حملته من شعارات وقيم ومطالب.
وجنّب الجيش البلاد مخاطر الانزلاق إلى الفوضى والانخراط في حرب أهليّة بعد الثورة، ذلك أنّ المؤسّسة العسكريّة لم تستغلّ هروب بن علي، لتعتلي سدّة الحكم. بل انشغلت، بدل ذلك، بالمحافظة على وحدة البلاد، ودرء أسباب الاحتراب الداخلي، فاضطلعت بدور مركزي في التصدّي لأي محاولةٍ لإشاعة الفوضى، أو لتفكيك الدولة بعد سقوط النظام، وأسهمت في ضمان سيرورة المرافق الإداريّة، وقامت بحراسة المؤسّسات السياديّة، والمؤسّسات الاقتصاديّة، والأملاك العامّة والخاصّة. وبعثت رسائل طمأنة للمواطنين، مفادها بأنّ الجيش يتفهّم مطالب الشارع التونسي، وشوقه إلى الحريّة والكرامة، ويضع إمكاناته في خدمة الصالح العامّ. فخرج الجنود من الثكنات، ورابطوا في مداخل المدن، وبالقرب من المرافق الحيويّة بغاية ضمان الأمن وتحقيق السلم الاجتماعي، والمحافظة على نسقٍ طبيعيٍّ لحياة الناس، إبّان الثورة. ولم تكن مؤسّسة الجيش تروم عسكرة المجتمع والتحكم في الفضاء العامّ. بل كانت ميّالةً إلى الاضطلاع بدورها في حماية حريات الناس، وتأمين حقّهم في ممارسة الاختلاف والعمل والإنتاج والإبداع، ضمن سياق اجتماعي يحكمه الاستقرار والتعايش في سلام. وبدا في هذا المستوى، أنّ الجيش مؤسّسةٌ تنتمي إلى المجتمع، ولا تتسلّط عليه.
ورفض الجيش التونسي، بعد الثورة، الانخراط في معترك الصراع على السلطة، والارتهان
لطرف حزبيّ على حساب آخر، والتزم الحياد تجاه كلّ مكوّنات المشهد السياسيّ، مقدّما مبدأ احترام الدستور، والمحافظة على وحدة البلاد واستقرارها، على مطلب التهافت على السلطة، والبحث عن مصالح قطاعيّة ضيّقة. وتولّى، بعد الثورة، مهام عديدة، أبرزها حراسة السلم الاجتماعي، وحماية الممتلكات العامّة والخاصّة، وتأمين التداول السلمي على السلطة، وضمان استمراريّة الدولة، ومواجهة الجماعات الإرهابيّة المسلّحة، ومخاطر التهريب والجريمة المنظّمة. وبرز في موقع القوّة المحايدة/ الضامنة لاستمرار المشروع الديمقراطي الوليد في تونس. وأسهم هذا الدور الإيجابي للجيش، بعد الثورة، في تعزيز مكانته لدى الناس، حتّى إنّ حوالي 82% من التونسيّين يثقون إلى حدّ كبير في المؤسّسة العسكريّة في بلادهم، حسب المؤشّر العربي 2015 الذي أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وما مِن شكّ في أنّ وجود مجتمع مدنيّ تونسيّ قويّ، ونخب سياسيّة تقدّمية في الحكم أو المعارضة بعد الثورة، ساهم في تعزيز حياد الجيش، وعدم تجاوزه صلاحيّاته الدستوريّة.
بدا الجيش التونسي ضامنا استمرار الدولة، غير متحكّم فيها وغير متسلّط عليها، واختار، بعد الثورة، أن يكون خادما للشعب، لا وصيّا عليه، فامتاز عن أغلب جيوش الوطن العربي. فهل سيتعزّز هذا الدور الحرفيّ/ البنائي للجيش التونسي في العقود المقبلة، أم أنّ الأمر خلاف ذلك؟
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.