عنف جنسي في بلاد الحرية

عنف جنسي في بلاد الحرية

22 يناير 2023
+ الخط -

يبدو الأمر لأول وهلة متناقضاً، فهل يمكن أن تشهد البلاد الأكثر تقدماً في الحريات، وفي مقدمتها الحريات الجنسية، موجة عنيفة من فضائح التحرّش والاغتصاب؟ هل يمكن أن تكون الدول، التي ينظر إليها كثيرون على أنها النموذج الذي يجب السير نحوه والتشبه به، واقعة تحت تأثير النظرة التي تختزل النساء في بعدهن الجنسي؟

الإجابة عن هذه الأسئلة: نعم. أما الحالات التي تكثر وتتزايد فيها القصص عن الجرائم الجنسية فليست، للأسف، حالات معزولة. هناك مفتونون بالحضارة الغربية، يحاولون حجب الحقيقة الواضحة، التي يتزايد عدد المؤمنين بها حتى من الغربيين، وهي أن تلك الأنظمة، المتقدّمة ظاهرياً، وتبدو متحكّمة بحركة المال والسياسة والأفكار العالمية، معطوبة بشكل واضح ومثقوبة بشكلٍ بات يهدّد ثبات تلك السفينة العظيمة التي ننظر إليها بافتتان.

يمكن أن نذكّر بحالتين شغلتا الوسائط الإعلامية خلال العام الماضي. الأولى ما تعرف بفضيحة ويستمنستر، وما نجم عنها من نقاش واسع تناول جرائم التحرّش تحت قبة البرلمان البريطاني. خلصت التحليلات والوثائق إلى أن الأمر لا ينحصر في بضع حالات، بل يتمدّد، مشكلاً ما باتت تعرف بـ"ثقافة ويستمنستر"، التي تشير إلى ميل رجال كثيرين مرتبطين بالحقل البرلماني للتخفّف من القيود الأخلاقية.

أسهمت التحقيقات في هذه الحوادث في إعادة الاعتبار لبعض الضحايا، وفي تسليط الضوء على مشكلة لم تكن مطروقة كثيراً، لكنها خلصت إلى حقيقة مؤسفة، أن البيئة البرلمانية والسياسية في بلد ديمقراطي عريق كبريطانيا معاديةٌ بشكل كبير للنساء. والسؤال الذي كان يفرض نفسه، وشغل، وما زال، المهتمين، كان عمّا إذا كان هذا الأمر متعلقاً فقط بالبرلمان وسلك السياسيين البريطانيين، أو أنه يمتد ليشمل قطاعات مختلفة ودولاً غربية أخرى.

البيئة البرلمانية والسياسية في بلد ديمقراطي عريق كبريطانيا معاديةٌ بشكل كبير للنساء

بالنسبة إلى باحثين أكاديميين، مثل ميري بيرد، التي قدّمت محاضرات، ونشرت كتاباً مهماً في موضوع "المرأة والسلطة"، ما زالت أوروبا، على الرغم مما يكسوها من بريق، رهينة أصولها اليونانية والرومانية، التي كانت موسومةً باحتقار المرأة. بسبب عقدة الذنب، توجد اليوم تشريعات كثيرة يبدو بعضها مبالغاً في تقديره للمرأة إلى درجة تتجاوز المساواة بالرجل بأن تجعلها هي الأصل على المستويين، الأسري والاجتماعي. على الرغم من التقدّم الذي حقّقته الحركات الحقوقية في هذا المجال، إلا أن مساحات مظلمة ظلت هناك، كان الرجال يفلحون في استغلالها، وهو ما ظهر بجلاء في حوادث مثل قضية "ويستمنستر" أو غيرها مما كشفته سلسلة فضائح "مي تو" (أنا أيضاً) التي سبّبت استقالات وزارية، قبل أن تشجّع الآلاف من النساء على الإدلاء بشهاداتهن وفضح المتحرّشين.

الحادثة الثانية، وشكّلت صدمة لكثيرين، كشف عنها أواخر العام، حين نقلت وسائل الإعلام الفرنسية اتهام نجم اليوتيوب الشاب، الذي يحظى بمتابعة الملايين، نورمان تافو، باغتصاب ستّ نساء واستغلال مراهقين. كان لهذه القضية أهمية كبيرة لأنها نبّهت، مرّة أخرى، إلى خطورة المواقع الاجتماعية، وأيضاً إلى مخاطر تأثر المراهقين بالشخصيات التي يرونها لامعة إعلامياً، كذلك نبّهت إلى أنه ينبغي الحذر من هذه الشخصيات المشهورة، التي يسهل عليها استغلال شهرتها للإيقاع بالضحايا.

قد يشعر المتابع لهذه القضايا ببعض الدهشة، فكيف يمكن أن تكون تلك المجتمعات اللطيفة، التي يظهر فيها الشارع كبيئة أكثر أمناً للنساء من نظيراتها في دول العالم الثالث، كيف يمكن أن تكون مشبعةً بالتحرّش، وبمفاهيم احتقار المرأة والتعامل معها كمجرد موضوع جنسي؟

للإجابة عن هذا السؤال، يمكن أن ننتقل إلى مشهد آخر كان متداولاً لمجموعة من الشباب، وهم يهجمون بأعداد كبيرة على مطعم لبيع الوجبات السريعة في بريطانيا. كان ذلك إبّان بداية صدمة التضخم، التي ترافقت مع شعورٍ بتراخي الشرطة، بسبب اقتطاع جزء كبير من الميزانيات التي كانت مخصّصة للحد من الجريمة. في تلك الفترة، بلغ الأمر بالسلطات حد تقديم نصائح للسياح بأخذ الحيطة والحذر ومحاولة التقليل من التباهي بالممتلكات الباهظة، حتى لا يتعرّضوا للسرقة أو لأعمال العنف، ما أسهم بتغيير الصورة الذهنية للمدن الأوروبية الآمنة.

يمكننا أن نستحضر مع هذا مشهداً آخر مشابهاً حدث في الولايات المتحدة إبّان العاصفة الثلجية القاسية أخيراً، ونتج منها عطل في الكهرباء، أدّى بدوره إلى تعطّل الكاميرات ووسائل التأمين والمراقبة. ما حدث هو اندفاع أعداد كبيرة من المواطنين تجاه المحال والمراكز التجارية، وتحول المئات، بل الآلاف، من الناس العاديين إلى شبكات عُصابية لا تتورّع عن كسر الأبواب واقتحام المتاجر.

حوادث الفساد المالي والأخلاقي، الذي مارسته الشركات والجيوش والمنظّمات الغربية التي عملت خارج حدود العالم الأول أكثر من أن تُحصى

وجه الشبه كبير بين حالات الفوضى هذه وما كُشف عنه من جرائم اغتصاب وتحرّش. ففي الأحوال العادية، لا يجرؤ أحد على أخذ سلعةٍ لم يدفع ثمنها أو على سرقة أية بضائع من أي منتج، هذا هو بالضبط ما يحدُث في الشارع الذي لا يجرؤ أحد فيه، في الظروف الطبيعية، على مضايقة النساء. الاستنتاج أن ما كان يمنع من التعدّي ليس الوازع الأخلاقي الداخلي كما نظن، بل أنظمة الرقابة التي تحيط بالمكان، ولذلك فإن هذه الشخصيات نفسها، التي تبدو ملتزمة ومحترمة، تتحوّل في الأوقات الاستثنائية إلى لصوص أو متحرشين.

يتضح المثال الأوضح في سلوك الرجل الأبيض خارج حدود بلاده واستسهاله كل جرم كان يراه كبيراً في مجتمعه الأصلي. حوادث الفساد المالي والأخلاقي، الذي مارسته الشركات والجيوش والمنظّمات الغربية التي عملت خارج حدود العالم الأول أكثر من أن تُحصى، فيكفي التذكير بأن الضمير الغربي يتغاضى عن التعذيب الوحشي في حال نَقل السجين إلى خارج الحدود.

يذكّر هذا بجملة سمعتها في أحد الأفلام الأميركية، حينما خاطب شرطي رفيقه قائلاً، وهو يحاول أن يثنيه عن التمادي في استخدام العنف: أنت لست في العراق.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق