عندما يسيء بعضهم القراءة والفهم

عندما يسيء بعضهم القراءة والفهم

10 يونيو 2022

(سعد يكن)

+ الخط -

في مسألة تكوين رأي أو تبنّيه، نجد أن كثيرين يميلون إما إلى الانطلاق من قناعاتٍ مسبقة لم تخضع للبحث والتمحيص، أو مدفوعين بتحيّزات شخصية أو سياسية أو أيديولوجية أو دينية. وإذا كان ذلك مفهوماً في حالة العوام، فإنه غير مقبول البتّة بين المثقفين وأهل الفكر والرأي. الخلل ذاته نجده عند العامة وبعض الخاصة، عندما يتعلق الأمر بقراءة نص مكتوب. يفاجئك أن هؤلاء لا يقرأون المسطور كما هو، بكلماته وجمله ومعانيه، مهما كان البيان واضحاً، ومهما كانت اللغة سهلة وبنيتها متماسكة، بقدر ما يقرأون من خلال خلاصات رتبوها مسبقاً، وانطباعات شكّلوها في أذهانهم، مهما جافت الحقائق. ومن ثمَّ، ينتهي الأمر إلى جدالاتٍ بيزنطية، وحشراً لصاحب الرأي في فكرةٍ لم يقل بها، وموقف لا يتبنّاه ضرورة. وضمن هذه النسقية، تطلّ الاتهامات برأسها، وتستخدم الشتائم، وقد يصل الأمر إلى حدِّ التخوين والتكفير.

حينها، عبثاً يحاول صاحب المقال أو الدراسة أو الكتاب أن يدافع عن نفسه ومنتجه، وبدل أن تخاض نقاشاتٌ في الفكرة أو الأفكار المطروحة، فإن الجهد يستنفد في مناوشات حول اتهامات وأوهام غير حاضرة. ولو كلف الانطباعيون وأصحاب الأحكام الجاهزة أنفسهم أن يقرأوا النص كما هو مصاغ ومبني، لا كما يصرّون على فهمه، لكفوا أنفسهم وغيرهم مؤونة تضييع الوقت، وافتعال معارك دونكيشوتية، واستنفاد الجهد في ما لا طائل من وراءه. الأدهى هو عندما يُتهم صاحب الفكرة بالتراجع عما "اقترفه" من ذنب، وهو يحاول تجلية ما قاله وعناه، لا ما قَوَّلَهُ إياه بعضهم، أو أساءوا فهمه ورموه به زوراً وبهتاناً.

يقرأ بعضهم من خلال خلاصات رتبوها مسبقاً، وانطباعات شكّلوها في أذهانهم، مهما جافت الحقائق

أحسب أن كل صاحب فكر وقلم عاش تجارب مريرة من هذا النوع، على اختلاف المستويات والدرجات. مثلاً، إن كتب علمانيُّ في نقد فكرة ما يتبنّاها إسلاميون، تجد بعضهم يحوّلها إلى هجوم على الإسلام ذاته. وإن تحدّث إسلامي، مثلاً، عن تزوير الانتخابات في بلدٍ ما، يبادر بعضهم إلى الزعم أن الإسلاميين يرفضون نتائج الممارسة الديمقراطية. لا الأول مسَّ بالإسلام وأصوله، ولا الثاني أعلن رفضه الديمقراطية وممارستها، ولكن التحيّز المسبق والانطباعية التسطيحية يقلبان الحقائق.

كم من مرّة سمعنا اتهاماتٍ تساق بحق مفكّرين معينين بأنهم معادون للإسلام، أو أنهم يقفون وراء انتشار التطرّف والعنف، أو أنهم عملاء لأجهزة استخباراتية أجنبية، وعندما تسأل أصحاب تلك المزاعم عن بيّناتهم، يحيلونك إلى مقالة أو دراسة أو كتاب أو مقابلة مصوّرة ومسجلة لهؤلاء المفكرين، لتكتشف، بعد قراءة متأنية ومتابعة حثيثة، أن أياً من ذلك غير صحيح. وعندما تحاول الاستفسار أكثر من هؤلاء، أصحاب الاتهامات الجزاف، حول كيفية وصولهم إلى هذه القناعات، يصدمونك بقولهم إن الأمور واضحة، ويتهمونك بالتعامي عنها، أو يرمونك بقصورٍ في الفهم، أو سذاجة تعاني منها! أما ثالثة الأثافي فتجسّدها وسائل التواصل الاجتماعي، إذ إنها أتاحت لكل محدود إدراك وفهم أن يردّ على مفكرين ومتخصّصين وعلماء، ناقضاً آراءهم بجهالة، وماساً بكرامتهم، رغم عدم استيعابه ما هو مطروح ومحل نقاش. ليس هذا فحسب، إذ وفرت وسائل التواصل الاجتماعي لهؤلاء، أيضاً، منابر ينشرون من خلالها الجهل وينسفون الوعي السليم.

باختصار، تستوي الكارثة عندما تصبح الدهماء حكماً على عالم الأفكار، أو حينما تسيء بعض النخب المثقفة قراءة المكتوب ومناقشته ضمن إطاره الحقيقي الذي يندرج فيه. أما إن كانت القراءة المبتسرة أو المشوهة مقصودة لذاتها، فتلك مسألة أخرى، مع بقاء الضرر ذاته.