عرَبُ التِّيهِ والتَّلفِ

عرَبُ التِّيهِ والتَّلفِ

03 فبراير 2022
+ الخط -

التِّيه والتَّلف مفردتان تجمعهما الأحرف الخمسة في كلّ منهما، كما تجتمعان في حرف التاء المُشدَّدة التي تتوسطهما، وتُشكِّل مرتكزاً في النطق فيهما. ولا يمكن أن ننكر أنّ اللغة العربية تتيح إمكانية أن تكون الواحدة منهما مُرادِفة للأُخرى، من دون أن يَستبعد الترادف الاختلافات القائمة بينهما، إذ تحمل كلٌّ منهما حسب سياقات الورود، دلالاتٍ ومعاني قاموسية مختلفة. تحمل المفردتان معاً دلالاتٍ يحضُر فيها الخوف والتردّد وانقباض الأنفاس، ولا أدري لماذا ترتبط كلمة التِّيه في ذهني بالصحراء والدروب الوعرة والأراضي الخالية، حيث تتضاعف مآزق التّيه فتختنق الأنفس التائهة أو تسقط مغشياً عليها. أمَّا كلمة التَّلف فتضعنا أمام مفترق مجموعةٍ من الطرق، فلا ندري أيها نتبع. تختفي معالم الطريق التي نتجه صوبها، ولا نجد أمامنا دليلاً يمدُّنا بالخيار المناسب للجهة التي نقصد، ولا نعود نمتلك القدرة التي تسعفنا برسم المخرج المناسب، فنتيه وتملأنا أحاسيس الضياع والخوف.

ركَّبت مفردتي التّيه والتّلف بجوار اسم العرب، وأنا أفكّر في أحوالنا العامة في وقتٍ أشعر فيه أكثر من أي وقتٍ مضى، بأن الحال ضاق بالحالِ، في السياسة والثقافة، في التنمية والنهضة، في الوحدة وفي المستقبل .. وتساءلت كيف يصبح التّيه والتّلف عنواناَ لعرب اليوم؟ عربٌ لم يعد بإمكانهم أن يفكّروا ويتحرّكوا لبناء ما يُسعفهم بتدارك مسلسل تراجعهم وانهيارهم .. لم أكن نائماً ولم أكن في غفلةٍ من أمري، وأنا أستحضر مفردتي التّيه والتّلف، كنت أفكر في المآزق التي يواجه العرب اليوم .. مآزق السياسة والثقافة والحرب والتاريخ، مآزق التعولم ودوامات الحروب المذهبية والطائفية، الحروب الدينية والعرقية التي أصبحت تخترق أغلب مجتمعاتهم .. وكان بودّي أن أستدرج من سِجِلِّ لغتنا مفرداتٍ أخرى، تمنحني إمكانية النظر في الأحوال العربية، إلا أن ورود المفردتين اليوم أمامي بأحرف كبيرة منحني مفاتيح أتاحت لي مُعاينة جوانب من الغُمَّة التي تملأ اليوم ديارنا في المشرق والمغرب وبدون استثناء.

عربٌ لم يعد بإمكانهم أن يفكّروا ويتحرّكوا لبناء ما يُسعفهم بتدارك مسلسل تراجعهم وانهيارهم

اختلطت أوراق المشهد السياسي في عالمنا، ولم يعد بإمكان المسؤولين السياسيين والمواطنين العاديين فهم ما يجري أمام أعينهم، فأصبحنا أمام درجةٍ قصوى من الارتباك في القول والعمل.. انسدّت الآفاق وضاقت السبل، وها نحن اليوم أمام أنظمةٍ سياسيةٍ تائهة، أنظمة تحرص على ضبط خرائط مشهدها السياسي، فتصنع الأحزاب المناسبة لديمقراطية الواجهة والبرلمان والدورات الانتخابية، وتُرَكِّب الإجراءات التي تتيح لها إقامة تناوب شكلي بين أحزاب، لم تعد أكثر من مجموعات صغيرة تنتظر نصيبها من ريع أنظمة، لا تريد أكثر من ديمقراطية الفرجة والزينة، بحساباتٍ لا تلتفت كثيراً لتحوّلات مجتمعاتها وتطلعات شعوبها.

يشير حديثنا عن التِّيه والتَّلف، في بعض أوجُهه، إلى الرياح العاتية التي تدفع الأشقاء اليوم في اتجاهات متناقضة. تدفع بعضهم إلى حروبٍ بالوكالة وتدفع آخرين إلى تخندقاتٍ تبعدهم عن الطموحات المنتظرة منهم، لتبعدهم عن واقع الأحوال المتردّية في كل من سورية وليبيا واليمن، في العراق وفي فلسطين. كما تدفع بعضهم إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، من دون أدنى اهتمام بمآلات الأنظمة التي طبَّعت قبلهم، ومن دون التفاتٍ إلى العدوان المتواصل الذي ما تزال إسرائيل تمارسه على الفلسطينيين في الأرض المحتلة. نقرأ مظاهر التّيه والتّلف أيضاً، في صور ومظاهر الاختراق الجديدة التي أصبحت تمارسها الوسائط الاجتماعية في مختلف مجالات الحياة، حيث أصبحنا يوماً بعد يوم نرتبط بواقعيْن، نسمع أصواتاً قادمة من الأرض، وأخرى تنزل علينا من الفضاء الأزرق وسماواته، وقد كنّا نعتقد، إلى وقت قريب، أنّ العوالم الزرقاء بمثابة امتدادٍ لفضاءات الواقع في جريانه، أو أنها صِنْوٌ له وصنيعة من صنائعه، إلّا أنّنا أصبحنا نرى اليوم أنّ عالم الوسائط الاجتماعية، على الرغم من كلّ صلاته بالمجتمع والتاريخ، صنع لنفسه مراتب وحركاتٍ وآفاقاً، لم نعد نستطيع إيجاد صلاتٍ دائمة بينها وبين ما يجري في الواقع، فيزداد تَلَفُناً.

اختفت، ونحن في لحظة تِيهٍ قُصوى، شعارات النهضة والتنوير، كما اختفت قبلها شعارات العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص

يمكن أن نتوقف لنُعاين مظاهر التِّيه والتّلف في قضايا مثل العروبة والنهضة، مشروع التحديث السياسي والديمقراطية، كما يمكن أن نتوقف أيضاً أمام أدوار المثقفين والفاعلين السياسيين في مواجهة خيارات المُطبِّعين، القدامَى منهم والجُدُد. تعرّضت العروبة، بوصفها مشروعاً وطموحاً تاريخياً، منذ ما يزيد عن أربعة عقود، لضرباتٍ قويةٍ من أهلها ومن الخارج، تعرّضت في اللحظة التي بدأ فيها مشروع الحديث عن إمكانية تبلور الملامح الكبرى لمشروع قومي ديمقراطي، يتجه إلى نفض اليد من بقايا البعث في صيغه المتعدّدة، بعد استنفاده الروح التاريخية التي شَكَّلت في سياق تاريخي معين مُنطلق تصوراته ومبادئه. وفي مقابل ذلك، لاحت بعض معالم العروبة المواطنة باعتبارها أفقاً سياسياً جديداً للتفكير والعمل، يَستجيب لأسئلة مجتمعنا وتحولاته.

اختفت أيضاً، ونحن في لحظة تِيهٍ قُصوى، شعارات النهضة والتنوير، كما اختفت قبلها شعارات العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص .. شعارات تحرير الأرض والإنسان، ليس في فلسطين وحدها، بل في مختلف البلدان العربية ومن دون استثناء، فقد أصبحنا اليوم في زمن التطرّف والطائفية والتطبيع المُعَمَّم. اختفت قيم الحرية والمواطنة والتسامح والعقل، وما يجري اليوم فوق أراضينا من أشكال التِّيه والتّلف، يضعنا في لحظة ضيقٍ تقطع الأنفاس، لقد أصبحنا بمثابة كائناتٍ تَهيم على وجوهها، وتَعَزَّز التّيه في السنوات الأخيرة بفعل ما خلّفه ويخلفه وباء كورونا في أجسادنا، فاختفت الطموحات والشعارات وعَمَّ التّلف.

سنواجه في المديين، القريب والمتوسط، أعاصير جديدة، تُضاعف من درجات تِيهنا لِتُفْضِي بنا إلى دوَّامة من التلف

أَلحقَ واقعُ الاختلاط والارتباك المنتشرين في أحوالنا العامة أضراراً جديدة بعالمنا، إذ تُهيّأُ اليوم في قلب الصراعات والمعارك المشتعلة في العراق وسورية ولبنان وتونس وليبيا والمغرب والجزائر، خرائط جديدة من أجل مزيدٍ من تفتيت أنظمتنا السياسية وتحويلها إلى طوائف ومِلَل، وأغلب الطوائف تستعيد مُتَخَيَّلاً قادماً من أزمنةٍ أخرى، فيتخلى الجميع عن حلم الاندماج والدولة الوطنية، حلم التضامن والتعاقد والدولة المدنية...

أفترض، في ضوء ما سبق، أنّنا سنواجه في المديين، القريب والمتوسط، أعاصير جديدة، تُضاعف من درجات تِيهنا لِتُفْضِي بنا إلى دوَّامة من التلف، لا نستطيع فيها لا حملَ رؤوسنا ولا فتحَ أَعيننا، فالغُمَّة اليوم تُقَيِّد الجسد ونحن صامتون يملأنا ذهولٌ صاعق. لا قدرة لنا على إعداد العُدَّة اللازمة لمواجهة التِّيه الذي يحاصرنا، ولا الدروب الوَعْرة التي أصبحت ممتدّة أمامنا.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".