عرائس أسادور

عرائس أسادور

12 يناير 2024

(أسادور بزديكيان)

+ الخط -

دخلتُ مرسم الفنان اللبناني الفرنسي أَسَادُور في باريس كما يدخُل الباحث عن السّلام كهفاً زاهداً مفعماً بالصّمت، وصخب الأسئلة الدّاخلية التي تجد نفسها على لوحاته، في حواراتٍ عميقةٍ بالشّكل واللون بدل الكلمات. ومن قال إنّه لا يمكننا الحوار إلّا باللغة؟ حين ترى لوحات أسادور الصّامت الذي تسمع منه بالكاد كلماتٍ قليلة، تجدها تُلخّص جملاً وفقراتٍ كاملة، فتُدرك سرّ صمته في العالم الكثيف، والصّاخب العامر بالألوان. أشكالُه الهندسية التي بلا نهاية، والنُّسخ البشرية ذات التّكوينات المعقدة تحتاج إلى عينٍ خبيرةٍ لتكشف علّاتها الداخلية، بالنّظر إلى حركتها في اللّوحات، وتلتقط صورةً تمثّل ما يراه أَسادور في البشر.

أسادور منعزلٌ عن العالم قدر الإمكان، في مرسمهِ الذي يسمح له بإخراج فوضاه الدّاخلية إلى مادّةٍ ملموسة، تظهر في طريقة ترتيب اللوحات، وطريقة اشتغاله غير الصّارمة، مرّةً جالساً وأخرى واقفاً أو منحنياً على لوحاتٍ لا تنتهي. فهناك دوماً احتمالاتٌ لتغيير منحى أو لون، بإبرازه أو دفنه داخل اللّوحة، بحيث تنمحي ملامحُه تاركةً الفرصة أمام لونٍ آخر. كأنّها لعبة شطرنج بين مكعّبات اللّوحة الحيّة، بقدر ما يمكن أن يكون الفن حيّاً.

مهمّة أسادور الأولى بعثرةُ العالم أو تفكيكه، لفهمه، أو للانتقام منه، أو للحِوار معه. يمكن أن تفهم الأمر كما تريد. وأنت تقف على تراكم الصّمت والرفض، أو عدم الفهم أو الوقوف بعيداً عن صراعات العالم، وتشهد انفجارَه على بياض لوحات أسادور، أو سوادِها، لأنه يؤسّس كثيراً من لوحاته بالأسود، كأرضية أولية للبناء عليها. ربما لا يبقى من الأسود شيءٌ بعد اكتمال اللّوحة. لكن البداية منه لها دلالتها، فهو يرسم ليغطّي على العالم كما يعرفه. عالم أسود، بألوانٍ دافئة أحياناً، مثل الأصفر والتّرابي والأحمر، وباردة أحياناً أخرى مثل تدرّجات الأزرق والرّمادي. المهم عدم البدء من البياض، فهو ليس إشكالياًّ بقدر السّواد. لا يُعيد ترتيب الحياة إلّا لعينيه، والعيون التي تقع على لوحاته، فهو غير معنيٍّ بالعالم خارجها.

في لوحاته رقّة ورهافة وعذوبة، رغم الأشكال الهندسية ذات الزوايا الحادّة، التي قد تواجهك بداية بمزاج منظّمٍ وصارم الحدود، لكن الاستسلام لتفاصيل اللوحة يُذيب المسافات الفاصلة بينها وبينك. تلتقطك النُّعومة التي تكمن خلف كل تلك الزّوايا والمثلّثات، والبناء اللّامنتهي لملجأ الإنسان. حيت تبرُز جهودُه الشّاقة في بناء ملجئه، منذ بداية التاريخ. إنّه سيزيف الذي يجتهد في تحويل صخرته إلى كهفٍ يؤويه، فتكسر الدوائرُ المكعّبات بنعومةٍ صارمةٍ تحفظ للحياة مرونتها.

صحيحٌ أنّ شخوصه مركّبة ومكسورة، كأنها بينيكو أو فرانكشتاين، ضحايا قوى أكبر منها حاولت قولبتها، أو لعلها تصوير لمجموعة أفرادٍ انكسرت، ولمّت أطرافها لتكمل المشي، ولو بأقدام عرجاء، لكنها لم تستسلم أبداً، وهذا انتصارٌ يبجّله أسادور. والدليل أنه، في جلّ أعماله، يغلب الدفء المُشمس الذي يتلوّن في درجات الأصفر والبرتقالي إلى ترابي يكسره الأزرق والرمادي. هذا كله يقرّب الناظر من لوحاته إليه، إذا كان محظوظاً بلقاء الفنان بشعريّته الناسكة ومسحة روحانية نادرة.

هناك شيء ضائع من الفنان أو من النّاظر إلى اللوحة، لا يعرف ما هو، لكنه يُدرك أنه غير كامل أو منقوص أو مرقّع أو معلّق، ومن ليس كذلك. هذا لا يعني أنّه لا يستعينُ بألوانٍ أخرى، وبهندساتٍ شعرية، تتداخل فيها الأشكال ببهجةٍ خفيفةٍ غير مبالغ فيها، مع قليلٍ من الكآبة غير اليائسة، كآبة الحزن، لا كآبة الاستسلام. لذا يمنح لشخوصه سلالم نجاةٍ للخروج من الآبار والحفر التي دُفعت إليها.

أخيرا، انتقل هوس أسادور من الأشكال الهندسية إلى الأشكال البشرية، مانحاً للإنسان قراءةً أخرى، تتجاوز الفن إلى الفكر وعلم النفس والشعر والملاحم الكبرى التي سجّلت تاريخ الإنسان. لعل هذا ما يفعله أسادور: تسجيل تاريخ الإنسان المعاصر في قراءةٍ من الداخل، للنفس البشرية والروح المنكسرة إلى ألف قطعة، من أجل أن يواصل الإنسان معركته مع الحياة. ربما لا يعرف معظم المنطقة العربية أسادور الذي اشتُهر في الغرب، وفي بلده لبنان أكثر. لكنه فنانٌ من الذين سيمجّدهم التاريخ وينصفهم، أكثر مما يفعل الآن.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج