عام الانهيارات السريعة في سورية

عام الانهيارات السريعة في سورية

30 ديسمبر 2022

(نهاد الترك)

+ الخط -

ربما فقد الفرد السوري قدرته على التذكّر تحت ضغط الحياة القاسية التي يعيشها، مثلما فقد قدرته على الحلم وتصوّر مستقبل لأبنائه، فكل المعطيات تشير إلى انغلاق الأفق أمام وجهه، وإلى انعدام الأمل في تغيير ظروفه وتحسينها قليلًا في المنظور القريب. لكن لو عزمنا على التأمّل في العام 2022 الذي يغادرنا إلى نهايته، وحاولنا الرجوع إلى الخلف والتمعّن في حياة السوريين، ليس أكثر، من دون استرجاع المفاصل الأساسية في السياسة والأحداث الكبرى، فسنرى هول الانهيار الذي وقع، فقبل عام، في مثل هذا الشهر من 2021، كان سعر صرف الدولار بالنسبة إلى الليرة السورية، التي أطلِق شعار "ليرتنا عزّتنا" مع بداية انهيارها، بحدود 3500 ليرة، أما اليوم فقد قارب السبعة آلاف. كان سعر الذهب عيار 21، الأكثر شيوعًا وطلبًا لدى السوريين، عندما كان بإمكانهم شراؤه في المناسبات الاجتماعية المهمة في حياتهم، كالزواج مثلًا، يعادل 182 ألف ليرة، بينما سعره حتى كتابة هذا المقال 325 ألف ليرة. وكان سعر البنزين المدعوم وفق البطاقة الذكية، بعد رفعه في مثل هذا الشهر من العام الماضي، 1100 ليرة، بينما سعره اليوم، وهو غير متوفّر إلّا في السوق السوداء، 4900، بينما وصل في هذه السوق إلى حوالي العشرين ألفًا. أما بالنسبة للمواد الغذائية فيكفي أن نعرف أن سعر كيلو الدجاج الحي كان 7200، قبل عام، واليوم بحدود العشرين ألفًا، أما طبق البيض فكان بحدود العشرة آلاف، وهو اليوم يفوق السبعة عشر ألفًا، وكيلو اللحم يتراوح بين الأربعين والخمسين ألف ليرة، بينما يحوم متوسط الرواتب والأجور حول المئة والخمسين ألفًا في الشهر.

حصل انهيار الليرة بمعدل مائة بالمائة تمامًا، ولا تملك الحكومة أي قدرة على تنفيذ حتى الخطط العرجاء التي يبتدعها خيال المسؤولين القاصر

يمكن عرض كثير من أسعار السلع الحياتية الضرورية للناس، واستخلاص نتيجة أن الانحدار بات متسارعًا بشدة، ما يجعل المواطن السوري يئنّ وهو على مشارف الهلاك جوعًا وعطشًا وبردًا، ففي عام فقط حصل انهيار الليرة بمعدل مائة بالمائة تمامًا، ولا تملك الحكومة أي قدرة على تنفيذ حتى الخطط العرجاء التي يبتدعها خيال المسؤولين القاصر. لذلك كان من الطبيعي أن تتعطّل الحياة تسعة أيام، بقرار حكومي، بين عيدي الميلاد ورأس السنة، بعدما وصلت أزمة المحروقات إلى حدٍّ شلّ الحركة بالمطلق، ليس بين المحافظات فقط، بل ضمن المدينة الواحدة. لا أحد يستطيع أن يصل إلى مكان عمله، ولا إلى مقصده، بالإضافة إلى شلل بعض القطاعات الحيوية، فهناك مشافٍ تعاني من النقص في كل شيء، من المحروقات والكهرباء والمواد الطبية، ومن الموارد البشرية، فكان أن أعلن مشفى التوليد، في دمشق، توقفه عن العمليات الباردة. وتوقفت أفران كثيرة بسبب غلاء المحروقات، وبسبب تقلّص هامش الربح إلى حد التهديد بالخسارة. توقف عاملون كثيرون في المداجن، وأغلقت منشآتهم. ولا بد من الإشارة إلى كمية النقد التي طبعت في هذه السنوات، من دون غطاءٍ من العملة الصعبة أو الاقتصاد.
لا يكفّ النظام عن إرسال الإرساليات التي ترمي إلى تجميل هذا الواقع، كتصوير حياة الناس المحتفلين بعيد الميلاد، والكاميرات التي تجول في بعض الأمكنة، حيث أقيمت بعض الزينة في الحد الأدنى، بإنارةٍ تعتمد على البدائل الأهلية، وليس على كهرباء الدولة، إذ إن الظلام واضح في محيط الصور، ومنها ما يأتي مثل صفعة على الأرواح برغم عذاباتها، وجديدها أخيرا عزم الحكومة على إعادة تشكيل ساحة السبع بحرات في قلب دمشق، التي عمرُها حوالي قرن، تبدّل اسمها من ساحة الكابتن ديكار بانتري، قائد فرقة الهجانة الفرنسية (حرس البادية)، الذي قتله الثوار السوريون في المكان ذاته عام 1921، إلى ساحة 17 نيسان، تخليدًا لذكرى الجلاء الفرنسي عن سورية 1946، ثم تكريمًا للكتيبة العسكرية المغربية، التي شاركت في حرب تشرين، سمّيت في العام 1973 "التجريدة المغربية"، لكنها بقيت في وجدان الدمشقيين والسوريين وعلى ألسنتهم "ساحة السبع بحرات"، وهذا يدلّ على أن ما يبقى هو ما يبدعه الشعب، هو ما يلتصق بالأرواح كجزء عزيز من الهويّة..

الشوارع مليئة بالحفر، والأرصفة كذلك، والمدارس متهالكة، تحتاج صيانة جذرية، وغيرها الكثير، فالبنى التحتية، الاقتصاد، الصحّة، الخدمات في حالة عجز

يعرف الدمشقيون تاريخ المنطقة، عندما كانت بساتين تحيط بدمشق، دمشق الواحة القديمة، والعاصمة التي لم تنقطع فيها الحياة على مرّ تاريخها، منذ أول بيوتٍ بنيت فيها، كانوا يقيمون سيراناتهم في بستان "عين الكرش" حيث توجد عين مياه عذية تسمى بهذا الاسم، تفيض مياهها وتغمر المنطقة مشكّلة بحيرات جميلة، والسيران بالنسبة لأهل الشام/ دمشق من مظاهر الاحتفاء بالحياة. دمشق التي توصف بأنها أقدم مدينة/ عاصمة ما زالت مأهولة، دوّنت تاريخًا غنيًّا، اقتصاديًّا وثقافيًّا، وكانت محطة مهمة في طريق الحرير، والقوافل المتجهة إلى بلاد فارس، وآسيا، ومصر، والجزيرة العربية، ومركز أكبر دولة إسلامية في تاريخ الإسلام، دولة الأمويين، اليوم هي أقل مدينة ملائمة للعيش في العالم، ليس بحسب المراكز البحثية العالمية، بل بحسب نبض الحياة فيها، وبحسب نفوس أبنائها المقهورين، الذين يضمرون عشقها المستحقّ في قلوبهم.
فما الرسالة التي يريد النظام إيصالها إلى هؤلاء المقهورين البائسين؟ لماذا الإصرار على تغيير وجه دمشق وطمس معالمها العريقة وهويتها التي تمسّك بها ساكنوها من دون أن يكونوا بعيدين عن مواكبة العصر، منها ما حصل أخيرًا بالنسبة لمنطقة محطّة الحجاز، وسوق الحرف اليدوية في التكية السليمانية؟ ما الغرض من إعادة تشكيل ساحة السبع بحرات وتحديثها، والتي لا تحتاجها في الأصل، بينما الشعب يجوع ويبرُد ويمرض من دون أن يلاقي الغذاء والدفء والدواء؟ ما الغرض من التجديد والتجميل، بينما البنية التحتية متهالكة في كل المستويات؟ لا ماء، لا كهرباء، ولا إنترنت، وصرّافات أكثر من ثلاثة أرباعها خارج الخدمة، فلا يستطيع الموظف الوصول إلى راتبه الهزيل إلّا بحرق وقته وأعصابه وعواطفه عدة أيام، الشوارع مليئة بالحفر، والأرصفة كذلك، والمدارس متهالكة، تحتاج صيانة جذرية، وغيرها الكثير، فالبنى التحتية، الاقتصاد، الصحّة، الخدمات في حالة عجز. والاقتصاد أيضًا، زيادة على تراجع الدعم الاقتصادي الروسي، ومطالبة الإيرانيين بالديون من خلال ثلاثة خطوط ائتمانية مفتوحة منذ العام 2011، وتم تجميدها، وعندما طلبت الحكومة قرضًا من الحكومة الروسية رفضت، فروسيا غارقة في حربها الأكبر، في أوكرانيا، وإيران تعاني من الحصار والعقوبات، ومن غضب الشعب والمظاهرات التي أربكت النظام بالرغم من العنف الذي يقابلها به.

الطريق إلى الحرية تلزمه إرادة حرّة من الولاء والارتهان إلى إراداتٍ خارجية

في المقابل، ليس الوضع أفضل كثيرًا في شمال غرب سورية الذي يعتمد على الليرة التركية والمنتج التركي، إذ تنعكس عليه أزمة هذه الليرة والتضخم الذي تعانيه، بالإضافة إلى الفساد الذي يتفشى في مفاصل السلطة في تلك المناطق، عدا الضغط الذي تسبّبه الأزمة السورية على السياسة الداخلية التركية، والتنافس على الفوز في الانتخابات.
في العام الماضي إلى خواتيمه، ازدادت معاناة السوريين كثيرًا، تردّت حياتهم، ازداد انغلاق النفق المحشورين فيه، وصار اجتراع الحلول أمرًا إسعافيًّا. لكن هل تُمحى تضحيته وضحاياه بجرّة قلم، من أجل أن تسير السياسة وفق مصالح الأطراف التي أدارت الحرب على مدى السنوات الماضية، ويضمن كل طرفٍ حصته، بمن فيهم النظام؟ وكأن هناك شعوبًا عزيزة وشعوبًا يتيمة. أمّا شعوبنا، ومنها السوري، فيتيمة، وما أكثر اللئام حوله، من الأوصياء عليه بحكم الأمر الواقع، بين نظام ومعارضة، وصولًا إلى آخر ضالع في مأساته، فهل سيحمل العام المقبل بارقة أملٍ في أن يعي الشعب السوري يُتمَه، وينظر إلى واقعه بطريقة أخرى، علّه يدرك أن الطريق إلى الحرية تلزمه إرادة حرّة من الولاء والارتهان إلى إراداتٍ خارجية، وأن طلب الحرية من حقوقه، وليس مؤامرة كونية عليه؟