صنّاع البيانات .. أين ذهبوا يا ربّي؟

صنّاع البيانات .. أين ذهبوا يا ربّي؟

24 ديسمبر 2020
+ الخط -

كان في مصر، زمان، أي ما قبل الدولة الطولونية، لا يكاد يمرّ على نخبتها أسبوع، من دون بيان ممهور بتواقيع المفكرين العظام والشعراء وأبناء الحقل السينماني وكتّاب القصة والرواية واتحاد الكتّاب "والمصحف"، وباقي النقابات الأخرى تحت القبض أو التسجيل، حتى من لم يكن له نقابة، أو نقابته جرى السطو عليها ليلاً، فكان يعود بباقي أعضائه، ويأخذ صورة "البيان الرافض للسلطة"، على السلّم الخلفي، ثم يهرب إلى باقي الحارات الجانبية.

تحضرني أسماء، ولكنّ بعضهم توفاهم والله، وآخرين يعانون الآن من أمراضهم شفاهم الله منها، فهل تسع سنوات فقط من قبل الدولة الطولونية تفعل في المصري "كريم العنصرين"، كل هذه الأفاعيل؟

أتذكر أن أحد الكتّاب نفحني، بالخوف والرعدة، لأنني لا أوقع على أيٍّ من تلك البيانات، وكأن وضع اسمي في بيانٍ تم إعداده بتوجيهات "أولاد العدل" كان سيضمن لي مكاناً لائقاً في سيناريو التطبيع، لم نكن نعرف ساعتها هذه السيناريوهات ولا المسلسلات، للأمانة، التي ستطبخ ما بين الخليج ودبي، وتدبر بعض فرص العمل للعاطلين منذ الدولة الطولونية. بالطبع، كان محمد رمضان فتىً يطرق أبواب بيت السبكي، ولم تكن الشاعرة هاجر فيض الكريم بهلول قد ذكرت، في بيان شديد الرومانسية، اختتمته "فوّضت، أنا الشاعرة، سيادة المشير لاتخاذ اللازم تجاه وطني". أما الشاعرة صديقتها فقد وقعت "بشاعرة"، و"ست بيت مع الملوخية". وقال النقابي الاشتراكي، سيد ألمظ، بعدما عمل سنوات في تعبيد الطرق، ثم انتقل إلى مركز حقوقي: "الأرض لنا والحقوق لنا والتفويض لصاحب التفويض، والأمر جلل". وقالت شاعرة في الستين: "أفوّض لأنني لا أريد أن أكون سبية وأنا في هذا العمر". وأحياناً الواحد يصدّق الأحلام طالما أصحابها على ثقة بقواهم، أما في حادثة "أبدو" فقد خرّت البيانات من كل نخيل العرب.

كانت البيانات تخرج بقوة دفع جنونية ما قبل الدولة الطولونية. أما بعدما جاء الإخوان، وبدأت تظهر في الأفق حكاية الدولة المدنية، فقد زاد الأمر عن حدّه، وانطلقت مواقع من الشرق والغرب: "أن عودوا إلى مصاحفكم وأحاديثكم، ودعونا نخطط لدولة مدنية معاصرة تخدم الأجيال ولا مكان فيها إلا للعلم". وانتشرت كلمة مدنية كالنار في الهشيم سنة، هي كل ما حكمه الإخوان من مكاتبهم فقط، حتى جاء "30/ 6"، بكامل مدنيته، فإذا بكل أحزاب الإخوان يتم حرقها تماماً، وإذا بسبعين مليار جنيه من "شقاهم" تُحوَّل إلى خزينة الدولة، علاوة على ما يقرب من أربعين مذبحة، ليس أولاها رابعة، ولا آخرها ريجني، أليست كل هذه الشواهد تكفي لصناعة دولة مدنية معاصرة على أحدث الطرز؟

حتى مضت تسع سنوات على الدولة الطولونية، وما زال الناس سعداء في بر مصر، وها هي البسمة أخيراً قد عادت إلى وجه "سيدة الكرم" في صعيد المنيا، بعدما طبق القانون المدني على الجناة بكامل حذافيره، وخرجت شاكرةً للرب راضيةً مرضية، وسوف تذبح جدياً في مولد العذراء 2021، وليس مستبعداً، في ظل هذا الكرم، أن تطلب من البابا تواضروس رحلة إلى فلسطين. وبالطبع، سيوافق البابا تواضروس في الحال، بشرط أن تبتعد قدر الإمكان عن الصحافة والإعلام المضر بمصالح مصر، وتلتزم معايير دينها وكنيستها. أما لو أرادت أن تقلد "أم زبيدة"، فسوف تخسر تعاطف الكنيسة وتعاطف الربّ أيضاً، ونحن سند لأمتنا المصرية في البناء، لا في الهدم.

أما من أراد أن ينتقد أي سلطة، فالمجال مفتوح خلال الـ 24 ساعة، والدولة المدنية المعاصرة قائمة على أرض مصر منذ أحمس، أي ما قبل الطولونية بألفي سنة. كذلك إن مؤتمرات السيد الرئيس في شرم الشيخ هي حوار عائلي مدني معاصر وجميل، ولا تتدخل فيه أية أجهزة أمنية من أي نوع، فلِم يخاف المفكّر، أو النخبة في مصر بعد الدولة الطولونية؟ ولسنوات تسع أن يدبجوا البيانات للعزوة والمساندة، "ونعم"، كما قالوا، "جلّابة للنعم".

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري