صراعٌ أوروبيٌ داخلي

صراعٌ أوروبيٌ داخلي

12 يناير 2023
+ الخط -

يعرف الجميعُ أنّ فرنسا، التي هي القوّة النووية الوحيدة حاليا في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، لن تسمح بأن تقترب أية دولة من منافستها في مجال التفوّق العسكري في أوروبا، خصوصا أنّ صناعاتها العسكرية متقدّمة جداً في هذا المجال، وتشكّل عنصراً أساسياً في دعم الاقتصاد الفرنسي أيضاً. وعلى الرغم من أنّ وجود قوّة عسكرية كبيرة في الاتحاد، مثل بولندا، على حدود روسيا وأوكرانيا، أمرٌ يصبّ، في النهاية، في صالح الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ الخشية الفرنسية تبقى موجودةً من البولنديين الذين لم يخفوا قط نزعتهم العسكرية، حتى خارج حدود بلادهم. وقد تعزّزت المخاوف الفرنسية والألمانية مجدّداً نتيجة التصريحات التي أدلى بها، أخيرا، زعيم حزب العدالة والقانون (الحاكم)، ياروسلاف كاتشينسكي، والتي طالب بها الولايات المتحدة بنشر قواتها النووية في بولندا.

قبل عشرين عاماً تقريباً، وردّا على سؤالٍ لأحد الصحافيين الهولنديين عن معارضة الأوروبيين قرار أميركا غزو العراق، قال وزير الدفاع الأميركي آنذاك، دونالد رامسفيلد: "هذه أوروبا العجوز، أمّا أوروبا الجديدة فهي معنا". وكان يقصد بذلك دول أوروبا الشرقية من بولندا إلى بلغاريا، مروراً بهنغاريا والتشيك ورومانيا وبقيّة الدول التي كانت آنذاك قد انضمّت حديثاً لحلف شمال الأطلسي (الناتو). والآن، وبسبب دورها المحوري في تقديم الدعم لأوكرانيا، باعتبارها دولة حدودية مجاورة لها، تحاول بولونيا لعب أدوارٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ أكبر في الاتحاد الأوروبي، وربّما تطمح في أن توازن الثقل الاقتصادي الألماني والسياسي الفرنسي بآخر عسكري بولوني، فهل تسمح لها الظروف الراهنة بذلك، وهل يستطيع الاقتصاد البولوني تحمّل تكاليف هذه الاستراتيجية الجديدة؟

تبيّن للجميع أنّ الروس لا يمكن أن يخرجوا من جلدهم، وأنّهم لا يمكن أن يتخلّوا عن نظرتهم التوسعية والعدوانية تجاه جيرانهم

إذا عدنا إلى مقارناتٍ اقتصاديّةٍ شائعة، نجد أنّ الناتج القومي الألماني وحده يزيد بمعدّل ضعفين وأكثر قليلاً عن الناتج القومي لجميع دول أوروبا الشرقية، بما فيها بولندا بالطبع. كما أنّ ألمانيا وحدها تدفع أكثر من ضعف ما تقدّمه فرنسا للاتحاد وثلاثة أضعاف ما تقدّمه إيطاليا، بينما تقف بولندا على رأس الدول الحاصلة على المعونة من الاتحاد، وتليها بمقدار النصف اليونان. يؤشّر هذا إلى مقدار القوّة الاقتصاديّة الهائلة لألمانيا، والتي تُعدّ بحقّ قاطرة الاتحاد الأوروبي ورائدة الاندماج والتكامل بين دوله. وهذا بالذات ما استدعى ياروسلاف كاتشينسكي إلى القول مجدّداً إنّ ألمانيا تحاول تنفيذ مشروع الاستيلاء على أوروبا سلمياً وبأدوات اقتصادية، مثلما كانت تحاول القيام بذلك عسكرياً قبل عقود. ولكن كيف لدولة تتلقى المساعدات من صندوق الاتحاد الأوروبي أن تطمح لبناء قوّة عسكرية توازن من خلالها الثقلين، الألماني والفرنسي، أليس في هذا مبالغة غير محسوبة النتائج، أم أنّ البولنديين يراهنون على عوامل خارجية تزيد من وزنهم النوعي بمواجهة الفرنسيين والألمان؟

يبدو أنّ البولنديين قرأوا جيداً مصالح الأميركيين بالحدّ من تنامي قدرة أوروبا الغربية الاقتصادية والسياسية، بهدف إبقائها تحت المظلّة الأميركية. لهذا رحّبوا بشدّة بقرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، نقل آلاف الجنود الأميركيين من ألمانيا إلى بلادهم. يدعم هذا التوجّه البولندي، بشكل طبيعي، التنافس الفرنسي الألماني من جهة أولى، والمنافسة الأنغلوسكسونية مع الاتحاد من جهة ثانية، فبعد "بريكسيت"، أعلنت كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن معاهدة أمنية جديدة تشمل، من بين أهدافها المعلنة، تعزيز الأمن والاستقرار في منطقتي المحيطين الأطلسي والهادئ. وصحيحٌ أنّ المستهدف الأساسي من تحالف "أوكسوس" هذا هو الصين، إلا أنّ ذلك لا يمنع إضعاف الجبهة الأوروبية الغربية، وقد كانت أولى آثاره تخلّي أستراليا عن أكبر صفقةٍ عسكريةٍ لشراء غواصات فرنسية بقيمة 30 مليار يورو، والاستعاضة عنها بغوّاصات أميركية نووية الدفع.

لا يزال البولنديون يتذكّرون مشروع أمن الموارد والطاقة الذي عرضوه على الاتحاد الأوروبي في فبراير/ شباط من عام 2006، وكان يهدف إلى تحرير أوروبا من التبعية لمصادر الطاقة الروسية، ويذكرون بمرارة كيف أطاحت المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، مشروعهم هذا عندما أصرّت، وأيدتها فرنسا بطبيعة الحال، على إدخال الغاز الروسي ضمن مشروع إمداد الاتحاد الأوروبي بموارد الطاقة. لقد اعترفت ميركل لاحقاً، وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا، بخطأ هذا المذهب، وبأنّها كانت حينذاك تتصوّر أنّ الروس وصلوا إلى قناعة فعلية بضرورة التكامل الاقتصادي مع أوروبا، والعمل من خلال الاقتصاد لتحسين ظروف الجميع، بدل الحرب أو التهديد بها. الآن، وبعد أن تبيّن للجميع أنّ الروس لا يمكن أن يخرجوا من جلدهم، وأنّهم لا يمكن أن يتخلّوا عن نظرتهم التوسعية والعدوانية تجاه جيرانهم، وخصوصا من أوروبا الشرقية وآسيا، فإنّ العمل جار لديهم على تقوية أنفسهم بأيّ شكل، بحيث لا يقعون فريسة الأطماع الروسية، كما وقع جيرانهم الأوكرانيون.

العالم ذاهب إلى تحالفات جديدة، قد لا تكون بمستوى تحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها قد تشكّل تغييراً في المسارات الدولية

اللافت في هذا المشهد الأوروبي المتناقض مواقف المستشار الألماني، أولاف شولتز، أخيرا، فقد أعرب عن رأيه بضرورة الاعتراف بالصين قوّة عالمية واقعية لا يمكن نكرانها، وأنّ العالم متعدّد الأقطاب يفرض على ألمانيا والاتحاد الأوروبي بناء شراكاتٍ متعدّدة مع آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد لاحظ مراقبون أنّ شولتز لم يتطرّق للشراكة التقليدية مع كندا والولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. يؤكّد هذا، بشكل أو بآخر، أنّ العالم ذاهب إلى تحالفات جديدة، قد لا تكون بمستوى تحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها قد تشكّل بمجملها تغييراً في المسارات الدولية على مختلف الصعد.

ولكن هل يمكن فعلاً أن ينزاح الثقل الأوروبي نحو الشرق، أي نحو بولندا أو هنغاريا أو رومانيا؟ وهل تكفي العوامل الخارجيّة لبناء مراكز جيواستراتيجية جديدة، بغضّ النظر عن العوامل الداخلية المتمثّلة بالاقتصاد، بالدرجة الأولى، وبالاستقرار السياسي، بالدرجة الثانية، وبالالتزام بمعايير العضوية في الاتحاد الأوروبي، بالدرجة الثالثة؟ وهل لأحلام البولنديين من فرص للتحقّق في أرض الواقع؟ وهل يمكن لبولندا التي ما زالت تضرب عرض الحائط بقرارات المحكمة الأوروبية العليا بشأن تشريعاتها التي تنتقص من استقلال القضاء، والتي اعتبرتها المحكمة أمراً مخالفاً لمبادئ الاتحاد الأوروبي ولشروط العضوية فيه؟ هل يمكنها أن تلقى دعماً أوروبياً، وأن تطوّر استراتيجيتها العسكرية الطموحة هذه؟ الحقيقة أنّ الحزب الحاكم البولندي لم يُخفِ يوماً ميله المستمرّ إلى اليمين الشعبوي، وطروحاته المتطرّفة، وهذا سيكون من أكبر العثرات في وجه الطموح البولندي الراهن.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود