شمس المعارف في ليل المعارض

شمس المعارف في ليل المعارض

09 يونيو 2023
+ الخط -

ما قولُك في قلب القارئ الذي يتحسّر أمام الكتب مثل ما يتحسّر مريض سكّري أمام الحلوى؟ لا شيء في يده، غير العجز يَكحُّ أوكسيد الكربون، بدل أوكسيجين المال، الذي قد لا يشتري السّعادات كلها، لكنه سيشتري حتماً كتباً كثيرة، وهي سعادة هائلة لبعضنا. يأتي المعرض كالذي لا يعرف أحداً وجهه من قفاه. فيشكو الناشر، يشكو الكاتب، يشكو القارئ، تشكو وزارة الثقافة، يشكو المثقفون. مَن السعيد بالمعرض إذن؟ غير أكشاك الأكل السريع، ولو أنه ينقصُها للأسف باعة الإسفنج الذي تعوّدناه في معرض الدار البيضاء.

تلك قصة أخرى، تتجاوزُ الإسفنج والازدحام، وضيق المدينة بالكتب وأهلها. هل سُرِق المعرض ونُهِب من الدار البيضاء لصالح الرباط؟ أو أن "بيضاوة" يحبّون المعرض حبّاً جماً، بحيث لا يودّون إطلاقه أو طلاقه، رغم أن مغاربة كثيرين ارتاحوا في الرباط لسعتها وشوارعها، وصفوف "التاكوس البلدي" والسندويتشات المعقول سعرها. أعيد الثناء على سعة قلب الرباط، لأشدّد على مقارنتها مع البيضاء المزدحمة بأنفسِها المليونية، وكثرة الشّوارع ذات الاتجاه الواحد، وعدد السيارات التي تنجب بعضها كما الأرانب. ما ألطف "كَازاوَة" في الأيام العادية، وما أصعبهم في المعرض، وهم محقّون، فالتوتر الدّيمغرافي يصل إلى مداه خلاله، ولو كنتُ مكانهم لفررتُ بجلدي طوال أسبوع المعرض، بدل أن أبكي على أطلاله.

"الاتّساع في القلب"، يقولها المغاربة حين يحبّون تبرير ضيق الأمكنة وكثرة الناس. لكن لا القلب يتّسع، ولا المعدة، لهؤلاء كلهم، فما بالُنا لا نطلب سراح الحب القاسي؟ تعال نعود، ونترك الكتب للكُتاب والناشرين، وأصحاب الإسفنج وسندويشات 40 درهما (أربع دولارات) الخالية من الطّعم والملح والزيت. لنكن محايدين، فحتى طنجة مدينتي لا تصلُح للمعرض، مع سيرها على خطى البيضاء في الإكثار من الأنفس والعربات وما بينها.

ليس كل شيء عسلاً في معرض الرباط، فما أكثر هنّاتك يا صفية الرباطية. بدءاً من تغوّل أجنحة المؤسّسات الرسمية والوزارات، حتى بدت مثل العمالقة أمام دور النشر التي صارت، حواليها، مجرّد كراريس بسيطة أو توكتوكات أو تريبورتورات. كثير من الإثارة وقليل من الأثر، في بلاغة عمياء أو عوراء تفضّل أن تنظر في المرآة بدل الآخرين، الذين هم الوجود الحقّ، لا هي، القاصرة السّجينة في قفص الأنا الرهيب. ثم تندسّ في صالات الأنشطة الثقافية، لتنظم ندواتها الـ"دوغمائية" بدل لقاءات الكتاب وندواتهم.

خذ بيدي من هذا المعرض. لكن من يترُك كل هذه الكتب ويمضي بضمير مرتاح؟ من سيمرّ على الأصدقاء، مثل نحلةٍ ترشفُ من كل وردة؟ من سيضيع بين الأروقة والأجنحة؟ لكن ذلك كله لا يقارن بأن تجد نفسك بعد عشر دقائق في محطة القطار، بدل الساعة أو أكثر في الطريق إلى محطّة قطار الدار البيضاء. أما البرنامج الثقافي فيا "عيني عليه... يا عيني ... مقدرش أوصف عينيه"، فبين من لا يستطيع أن ينظر في عيوننا. ومن اختار من، ومن جاء لأجل عيني أصحابه، ومن جاء لأن عينيه واثقتا النّظرات وفيهما عُمر من النّظر والكتب، دليلي احتار.

كتبٌ تمشي، وكتبٌ تأتي، معارض تُدقّ أوتادها، ومعارض تُفكُّ مفاصلها إلى حين. كأن لا شيء حدث، أو لا كتب مرّت، وهي أجلُّ من أن تمرّ فحسب. على سيرة الكتب، ما بال القوم يمنعون الكتب؟ متى سيُرفع سيف الرقيب عن أعناق الكتب؟

ليس عبد الله حمّودي كاتباً يحمل في يده كتاباً تعمّد فيه أن يُمنع، لأنها الطريقة الوحيدة التي قد يُعرف الكتاب بها. كما حدث العام الماضي حين كتبَت شابّة ما يشبه رواية. لمن لا يعرف حمّودي، هو الذي كتب "الشيخ والمريد" أحد أهم الكتب العربية المعاصرة.

والكتاب الممنوع "حضور في المكان: آراء ومواقف"، مجموعة منتقاة من مقالات وحوارات حمودي. من أبرز ما تناوله: قضايا الهوية، والحرية، حركة "مقاطعون" المغربية والقضية الفلسطينية، حراك الريف وفشل نموذج التنمية، وضعية الصحافة والاعتقال السياسي، وفشل الانتقال الديمقراطي ... إنّها أول مرة في "العهد الجديد" يُمنع فيها كتاب لأسباب سياسية تمسُّ بحرية التعبير. كلّ معرض ونحن نشتري الكتب ونعفو عن المعرض. كلّ معرض ونحن نستضيء بالمعارف لإضاءة أي عتمة في المعارض.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج