شكلية الأمم المتحدة وازدواجية المعايير الدولية

شكلية الأمم المتحدة وازدواجية المعايير الدولية

26 يوليو 2023
+ الخط -

بعد الأهوال التي تعرّض لها العالم في الحرب العالمية الثانية، سعى مؤسسو الأمم المتحدة لإقامة جامعة بين الدول، تعمل على عدم تكرار هذه الأهوال وتجنّبها في المستقبل. واعتبر المؤسّسون ميثاق الأمم المتحدة ملزماً للأطراف الأعضاء، حيث يُعتبر أعلى مراتب المعاهدات الدولية وأكثر قواعد القانون الدولي سموّاً ومكانة. ونصت المادة 103 منه على أنه "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق". ومعنى ذلك أنه لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة.

لم تجد النيات الحسنة التي انطلق منها الميثاق طريقها إلى التطبيق في الواقع الدولي. وقد لاحظ الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بيريت دي كويلار، فساد هذا الاستدلال واندحاره أمام الضوابط المعيارية للمجتمع الدولي، رابطاً حالة الفوضى الكونية بأزمة الشرعية "لا شك في أنه، على المستوى العالمي، وفي أقصى الحدود التي تمثلها كبريات الدول المتوفرة على قوة نووية هائلة، من جهة، والشعوب المحرومة والمجردة من جهة أخرى، نجد فراغاً سحيقاً حيث وجب أن تجد الشرعية والسلطة مكاناً لهما"، فالآمال التي بُنيت على الأمم المتحدة لم يكن مقدّراً لها أن تتحقق، ولم يخامر شعوب العالم التي نطق الميثاق باسمها أبداً إحساسٌ بأن الأمم المتحدة ملك لها، وهي لم تنتمِ لهم، بل انتمت، في أحسن الحالات، إلى الحكومات، ثم انتمت لعدد قليل منها. لقد شكّلت الأمم المتحدة ميداناً للسياسات العليا، رغم الدور المهم الذي لعبته الأمم المتحدة بالعمل على استقلال شعوب العالم وتحرّرها من الإمبراطوريات الأوروبية، ووجدوا طريقهم إلى الاستقلال الوطني. مع ذلك، بقيت الأمم المتحدة شيئاً منفصلاً بالنسبة للشعوب.

لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة

حاولت بلدان العالم الثالث التي انضمّت تباعاً للأمم المتحدة أن تضع المؤسّسة الدولية في قلب الأحداث. لكن الأغلبية التي حشدتها لم يكن في مقدورها سوى أن تُوصي، لا أن تقرّر، على خلاف ما اعتقدت من قدرتها على اتخاذ القرارات، وترتب على ذلك إحباط شديد لهذه الدول. ورغم تشكيلها أغلبية أعضاء الأمم المتحدة، لم تستطع أن تنتصر على الأقلية التي كانت تمارس السلطة الفعلية في مجلس الأمن، بل فقدت الأمل بذلك مع مرور الوقت، وسقطت في الإحباط وتخلّت عن أوهامها.

ولدت الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو 1945، وهي تحمل سمة اعتبرت "مؤقتة"، وهي تشكل مجلس الأمن وإعطاء بعض أعضائه حق النقض (الفيتو)، الذي مُنح للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهي الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الدول لم تقصد أن تكون هذه الترتيبات مؤقتة. كانت مقتنعةً بأنه ينبغي أن تكون لها سلطات خاصة في المستقبل، رغم القبول الرسمي لمبادئ المساواة بين الدول الأعضاء. وقيّض لهذه الامتيازات التي استأثرت بها الدول الكبرى، أن تُكرس في الميثاق، وبالتالي، تهيمن على المؤسسة الدولية. وبذلك شكّل مجلس الأمن الذراع المؤسّسية الرئيسية للمنظمة الدولية، وعهد إليه بصفة خاصة بضمان الأمن والسلم في العالم. وهو الهيئة الوحيدة في الأمم المتحدة، التي لها سلطة اتخاذ قرارات تلزم كل الدول الأعضاء، وتجيز اتخاذ التدابير لتنفيذ هذه القرارات بموجب أحكام الأمن الجماعي المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق. وهكذا، فإن الاعتبارات السياسية هي التي سيطرت على نظام الأمم المتحدة، فأي قرار يصدُر عنها هو تعبير عن رغبة أو اتجاه سياسي للدول الكبرى. ونتيجة لذلك، إن كانت هناك ازدواجية في المعاملة تبعاً لذلك فهذا سببه الدول ذاتها، فالازدواجية تنشأ نتيجة للاعتبارات السياسية، وليس نتيجة إعمال المبادئ.

الصلف والازدواجية التي تعاملات وتتعامل الولايات المتحدة بها مع قضايا تستند إلى أساس واحد هو الذي يجعل الازدواجية الظالمة واقع الحال في العلاقات الدولية

طبعاً، ما كان للدول الكبرى أن تصادق على الميثاق من دون حقّ النقض الخاص بها، وقد عمل هذا الحقّ خلال السنوات اللاحقة على ضبط الأوضاع الدولية بآلية المنع عبر استخدام هذا الحق. وهو ما اعتبر صمام الأمان في منظومة الأمم المتحدة، من حيث كونه يجعل من المستحيل على الأمم المتحدة أن تمضي إلى الحرب ضد إحدى الدول الكبرى وفق الفصل السابع من الميثاق، مهما بلغت خروقات هذا الطرف القانون الدولي. وفرت هذه الميزة للأعضاء الدائمين القدرة على منع أي عملٍ لا يرغب به أيّ من الأطراف المشكلة لهذه الإطار الضيق. ما جعل مجلس الأمن مؤسّسة مغلقة لصالح الدول دائمة العضوية تتحكّم في مساراته. ولم يكن اختلاف المعايير بين أعضاء الأمم المتحدة النقد الوحيد الموجّه للمؤسسة الدولية. وهناك نقد لا يقل أهمية عنه يتعلق بالقانون الدولي. وحسب بعضهم، عانى هذا القانون، باعتباره مفهوماً عالمياً، من كونه مركّزاً على أوروبا. وشعرت البلدان النامية بصفة خاصة، ولم يكن ذلك بلا مبرّر، بأن القانون الدولي يستند إلى القيم المسيحية، وأنه مكرّس، في الوقت ذاته، لدعم التوسّع الغربي، فقد تم وضعه في أوروبا، بواسطة فقهاء قانونيين أوروبيين لخدمة غايات أوروبية. وعمل هذا الاختلال في بنية المنظمة الدولية على إنتاج معايير مزدوجة، تتفاوت بين حالة وأخرى. ومعنى ذلك أنه في مواجهة أوضاع متماثلة يتم إعمال حظر استخدام القوة مرّة، وإباحتها أخرى، أي ممارسة ازدواجية المعاملة.

استندت المعايير المزدوجة في فترة الحرب الباردة إلى تغطيات قانونية، كانت تنجح، في حالاتٍ كثيرة، في إخفائها. ومع انتهاء تلك الفترة، ظهرت الازدواجية بشكل فج بغياب القطب الآخر من النظام الدولي، وهيمنة الولايات المتحدة. وبذلك كان المثل الصارخ لازدواجية المعايير، من خلال التعامل مع حالة واحدة بمعايير مزدوجة، وهي احتلال العراق للكويت واحتلال إسرائيل للأراضي العربية. ففي الحالة الأولى تم استنفار مجلس الأمن ومن بعده العالم لمواجهة الاحتلال العراقي للكويت، وفي الثانية تمت رعاية الاحتلال وحمايته في المنظمة الدولية وفي غيرها من المواقع. وكذلك الحال، جرى التعامل بقوة مع الاحتلال الروسي أوكرانيا ودعمها بقوة لمواجهة العدوان الروسي، في وقت ما زال الصمت عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه قائماً.

الصلف والازدواجية التي تعاملات وتتعامل الولايات المتحدة بها مع قضايا تستند إلى أساس واحد هو الذي يجعل الازدواجية الظالمة واقع الحال في العلاقات الدولية.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.