شراكة الصين مع أفغانستان قبل براغماتية أوروبا

شراكة الصين مع أفغانستان قبل براغماتية أوروبا

05 سبتمبر 2021
+ الخط -

هل سيتحاور الغرب مع حركة طالبان؟ هذا هو السؤال الأكثر طرحاً منذ بسطت الأخيرة سيطرتها على أفغانستان قبل أيام. من المرجّح أن تفعل أوروبا ذلك قبل الولايات المتحدة، بسبب حساسية الأمر بالنسبة إلى الأميركيين. غير أن لا ثابت في السياسات الدولية؛ إذ قد يكون ولوج أوروبا إلى أفغانستان عبر البوابة الاقتصادية توطئةً لعودة الولايات المتحدة إلى هذا البلد عبر البوابة ذاتها، وهو ما لا تفضّله أوروبا التي سحبتها أميركا من أذنها للمشاركة في حربها عليه. وقد لا يتأخر هذا الحوار كثيراً، فقد يشكّل احتمال مسارعة الصين إلى الاعتراف بـ"طالبان" والتعاون معها، دافعاً للدول الأوروبية إلى البحث عن مبرّرات تسرِّع هذا التحاور، وتؤسّس لعلاقات اقتصادية بين الغرب وأفغانستان، تتعالى عن عداوات الماضي، وتتغاضى عن ملفات تحريم التطبيع بين الفريقين.

لن يتأخّر الأمر كثيراً حتى تتوقف السرديات التي تبحث في المسؤولية عن الهزيمة الأميركية في أفغانستان وتبعاتها، وتلك التي تخوض في أسباب الانسحاب الأميركي والغربي السريع الذي أتاح لـ"طالبان" السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، وإحكامها الهيِّن على العاصمة كابول، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للحديث عن فوائد الاستثمار في هذا البلد الواعد. وقد شَرَع كثيرون في الغرب في العودة إلى الحديث عن أهمية أفغانستان، بفضل ما تكتنزه أراضيها من ثرواتٍ نادرةٍ لا تتوافر في بلدان أخرى، وبفضل موقعها الاستراتيجي، وغيرها من المقوِّمات التي تحدّد أهميتها السابقة والمستجدّة على الساحة الدولية، وفي موازين الاقتصاديين الغربيين. وستتسارع الدراسات في هذا المجال، مع الأخذ بالاعتبار ما يمكن الصين أن تقدّمه إلى أفغانستان، وما يمكنها الإفادة منه والتسلّح به لزيادة قوتها وموقفها أمام القوى الغربية، إذا ما جرى التوافق بين "طالبان" والقيادة الصينية على ملفات ما بعد الحرب، وطرق تعزيز السلام بدعم الاقتصاد والتنمية.

بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان وسيطرة "طالبان" على كابول، تستطيع الصين أن تقدّم لأفغانستان أكثر مما تحلم به

ستدفع البراغماتية الغربَ إلى التأمل في قضية جوهرية في الصراع الأفغاني، وهي نتائج الحرب التي شنتها أميركا والدول الأوروبية على أفغانستان، بعد الهجمات على نيويورك وواشنطن سنة 2001، وهي حرب استمرت 19 عاماً للقضاء على حركة طالبان، ولم تنجح. وسيصل المحللون والسياسيون إلى نتيجة تقول بصعوبة القضاء على "طالبان"، وبالتالي التسليم بضرورة محاورتها. وعلى الرغم من أن احتمال الحرب لا ينتفي لدى الساسة الغربيين، وخصوصاً الأميركيين، إلا أن الأجواء في أوروبا تشير إلى أن الساسة تخطّوا مسألة العودة إلى شنّ حربٍ عبثيةٍ أخرى من أجل القضاء على طالبان، وهو ما تحدّث عنه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، تحت قبة مجلس العموم البريطاني، وختمه بأن بلاده ستحكم على "طالبان" من خلال أفعالها لا أقوالها، والحكم يعني بلغته التحاور أو تطبيع العلاقات معها. وشروط جونسون لذلك الحوار ردّدها، بصيغةٍ أخرى، وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي لم يستبعد الحوار مع "طالبان" بعد تحقيقها خمسة شروط.

وإذا ما تأملنا في الشروط الفرنسية، وتلك البريطانية، نجد أن جميع الدول الغربية تُجمع عليها: احترام حقوق المرأة، والسماح بوصول المساعدات الدولية للمتضرّرين من الحرب، وعدم ممانعة "طالبان" الراغبين في مغادرة البلاد، وعدم السماح بتحويل أفغانستان إلى ملاذٍ للإرهاب الدولي، وتشكيل حكومة انتقالية. ولا يشير تعويل أوروبا على إمكانية تنفيذ "طالبان" هذه الشروط سوى أن أوروبا قد تريد الافتراق عن الولايات المتحدة في مسألة المصالح، خصوصاً أن المصالح الأميركية تتعزّز بالحروب التي تشنها واشنطن، وتجرّ الدول الأوروبية إلى المشاركة فيها، وعادة ما لا تتكلل تلك الحروب بالهدف الذي شنت من أجله، وهو وقف التهديدات الإرهابية المزعومة التي تأتي من الدول التي تشن الحروب عليها، أو إحلال السلام فيها. خذ على سبيل المثال العراق وسورية والصومال وغيرها. وفي النهاية، لا تحصد أوروبا سوى موجاتٍ من اللاجئين من البلدان التي تعاني الحروب، بينما تتنعّم أميركا بتصريف أسلحتها الكاسدة على حروبٍ أحد أهدافها تشغيل مصانع السلاح خلف الأطلسي.

لا تتأكد البراغماتية التي بدأ الغرب يعتمدها من أجل التعامل مع أفغانستان إلا من مناشداتٍ بدأت تظهر وتقول: "من أجل الشعب الأفغاني تحاوروا مع طالبان!". ولكن، لماذا تأخّر هذا الحوار بعد عشرين سنة من الحرب التي تكلّلت بالهزيمة؟ لو بدأ الحوار سنة 2001، وكان هدفه التحقق الصادق من مسؤولية حركة طالبان أو تنظيم القاعدة عن هجمات "11 سبتمبر" ، لكانت مآسٍ كثيرة في المنطقة قد وُئدت. لو بدأ الحوار يومها، لما كان الغرب يعيش اليوم هاجس أن تسارع الصين، أو حتى روسيا، لملء الفراغ الذي تركه انسحابه من أفغانستان، أو حتى إمكانية مساءلة قادته عن سبب هذا الانسحاب الذي أتاح لـ"طالبان" ما لم تكن تحلم به قبل يوم 16 أغسطس/ آب 2021.

لن يتأخّر الأمر كثيراً حتى تتوقف السرديات التي تبحث في المسؤولية عن الهزيمة الأميركية في أفغانستان وتبعاتها

بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان وسيطرة "طالبان" على كابول، تستطيع الصين أن تقدّم لأفغانستان أكثر مما تحلم به. هذا فحوى هاجس الغربيين لدى تفكُّرهم في مستقبل أفغانستان تحت حكم "طالبان". وكعادتها في النأي عن الصراعات التي تشعل الولايات المتحدة فتيلها، لم تجرِّب الصين حظوظ قوتها في هذا البلد المنكوب، كما فعل حلفاء أميركا، بل تسلّلت عبر المساعدات الإنسانية والعقود التجارية وأصبحت شريكاً تجارياً كبيراً لأفغانستان، مُحافظةً، في الوقت نفسه، على حيادٍ سياسيٍّ. وهي بذلك أسّست لما يمكن أن يكون أساساً لبناء أكبر يعزّزه عدم وجود حساسية لدى الأفغان تجاهها، في حين أن لديهم حساسية مفرطة وارتياباً، تاريخياً ومستجدّاً، تجاه الغزاة الغربيين. لذلك فإن هذه العوامل، وحقيقة القدرة التي تتمتع بها الصين في سرعة إنجاز البنى التحتية والتأسيس لصناعات واعدة، تعطيها الأفضلية لدى "طالبان"، في حال تشكيلها الحكومة الموعودة والضرورية لإرساء السلام.

حين دخلت "طالبان" إلى كابول أعلنت من فورها انتهاء الحرب. لذلك ينتظر منها أن تعلن الحكومة المتوقع أن تكون انتقالية، وتضم مكونات سياسية أخرى إلى جانب "طالبان"، لتكون بذلك الخطوة الأولى نحو السلام. حينها ستنفتح خزائن أفغانستان وما تحويه من نفائس، ليس أقلها الليثيوم والحديد والنحاس، وغيرها من المعادن النادرة، أمام من ترى فيه "طالبان" شريكاً لم يتورّط مع الولايات المتحدة في إراقة دماء أبناء الشعب الأفغاني ودمّر بلادهم. وستكون الصين هي هذا الشريك، حينها ستكون البراغماتية خطوةً متأخرةً اتبعها الغرب للفوز بأفغانستان تحت حكم "طالبان" قبل الصين.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.