سياسات قيس سعيّد وشروط ثورات العنف؟

سياسات قيس سعيّد وشروط ثورات العنف؟

29 اغسطس 2021
+ الخط -

أثارت قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيد، إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان وتوليه إدارة المسؤولية التنفيذية لشؤون الدولة التونسية، جدلا كثيرا تباين بين الرضا، واعتبارها بمثابة انقلاب على الشرعية وتراجع عن مكتسبات الديمقراطية التي جاءت بها ثورة الياسمين في 2011. وعلى هذا النحو أيضا، من الضروري أن تثار أسئلة بشان تبعات ذلك على مستقبل  نظام ما بعد الثورة واستقرار تونس: هل يتم التراجع عن النظام البرلماني في اتجاه تبنّي النظام الرئاسي؟ وهل تسمح القوى التي ساهمت وساعدت في الثورة بالتخلي عن مسعى الدمقرطة؟ وهل  ينجرّ عن تبنّي نظام رئاسي التحول نحو حكم يتسم بالتسلط والاستبداد، بما يساهم في إعادة توفير شروط الرفض والثورة؟ 
.. قبل تولي قيس سعيد الرئاسة في تونس في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كتبت مقالين في صحيفة "رأي اليوم". الأول في 14 أكتوبر 2019: "هل يجسّد الرئيس قيس سعيد النسخة القذافية الجديدة" تضمن أن سعيّد، من تحليل خطابه، معادٍ صراحة للأحزاب والنظم الحزبية، ويتبنّى فكرة أن السياسة تصنعها الجماهير من خلال العلاقة المباشرة معها في القاعدة، وهذا بانتخاب مجالس محلية يكون لها تمثيل في المجالس الجهوية ومجلس النواب، وهو أقرب إلى مبادئ نظام القذافي، القائم على اللجان الشعبية المحلية والمؤتمر الشعبي العام. ونشر المقال الثاني في 21 أكتوبر 2019: "انتخابات الجزائر 1991 وانتخابات تونس 2019، سباق متشابه وإخفاق محتمل"، توقع أن تصل التجربة الديمقراطية التونسية إلى الطريق المسدود. وخلاصته: "في ظل افتقاد الرئيس قيس للوسائل والأدوات التي تمكّنه من تجسيد أفكاره وتصوراته في الإصلاح والتغيير بما يساهم في تحقيق آمال وتطلعات شعبه (لا سيما فئة الشباب)، ستدفع الأحداث في تونس، بعد أن يشعر الرئيس أنه وصل إلى ما يراه طريقا مسدودا، وبعد أن يقدّم لائحة اتهامات ضد الأحزاب، ويشكو المنظومة التي جاءت بها ثورة الياسمين، سيتحرّك الشعب الذي ليس لديه ما يخسره بعد أن تتفاعل الأحداث في اتجاه حصول ثورة ثانية عنوانها: فليحيَ الشعب التونسي وعبره حكم الرئيس الزعيم القائد المنقذ". وقد تفادى المقال الجوانب القانونية لقرارات الرئيس، وركّز على مشروعية القرارات والسياسات، من دون الالتفات إلى مسألة الشرعية التي اكتسبها أولا من انتخابه بحرية ونزاهة. في ضوء ذلك، أرى أن قرارات إقالته الحكومة وتجميده عمل البرلمان ورفعه الحصانة عن النواب ومباشرته مقاليد السلطة التنفيذية كانت مبرّرة، بالنظر إلى الوضع الذي آلت إليه تونس ما بعد الثورة، وبتعبير السيد الرئيس "مخاطر تهدّد تونس".

كان طبيعيا أن تنخرط قوى ما بعد الثورة في صراعاتٍ غير واعية من أجل السيطرة على دواليب الدولة، في غياب مشروع دولةٍ متفقٍ عليه

لقد تحوّل البرلمان، رمز الديمقراطية، إلى ساحة تجاذب أيديولوجي حادّ وعقيم بين مشروعين متناقضين، إسلامي/ علماني، وتمادت الأحزاب في صراعاتها المستنزفة، في ظل انتشار وباء كورونا وعجز السلطات على مكافحته. وفضلا عن سوء التسيير والإهمال الذي مسّ المؤسسات الحكومية، فنتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية وزيادة نسبة البطالة والفقر، ازداد السخط الشعبي، وارتفعت حدّة الاحتجاجات والإضرابات التي مسّت جل القطاعات.
كان طبيعيا أن تنخرط أحزاب وقوى ما بعد الثورة في صراعاتٍ غير واعية من أجل السيطرة على دواليب الدولة ومفاصلها، في غياب مشروع دولةٍ متفقٍ عليه يجمعهم. وفي ظل انهماك العالمين، الشرقي والغربي، بمواجهة مخاطر الوباء، وتراجع  مستوى الاهتمام بنقل قيم الديمقراطية إلى أدنى درجة في سلم أولويات الدول الغربية، وجد قيس سعيّد الظروف مناسبةً لاتخاذ قرارات ضرورية. وإذا كانت الظروف الحالية مواتيةً للإقدام عليها، هل تسمح له بوقف حالة التردّي والتدهور، أو سوف ينتقل إلى تغيير النظام ليصبح رئاسيا؟ وهل يمنع من أن يتحوّل النظام الرئاسي إلى مركزي تسلطي. وتبعا لذلك، يعيد إنتاج ظروف مأزق العنف والفوضى وشروطه في المستقبل؟

سوف يصل سعيّد إلى هندسة نظام رئاسي مركزي قوي، يستند إلى قيم الولاء والزبونية، ، غير أنه سيعيد إنتاج قيم المحسوبية والولاء

لا تزال البيئة الداخلية، على الرغم من عملية الإصلاح والتمدين التي حظيت بها منذ الاستقلال، مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بناها الثقافية والاجتماعية التقليدية، مساعدة على ازدهار قيم الولاء لغير الدولة. ولعل ما حصل بعد الثورة يؤكد هذا، حيث أضحى التمكين للحزب والجهة والمنطقة والمدينة على حساب مصالح الدولة. وعلى المستوى الدولي، تبدو الظروف مواتيةً لإعادة بعث أنظمة مركزية تسلطية، سيما مع تفوّق الصين اقتصاديا، ونجاحها في إدارة مكافحة وباء كوفيد 19، وهي أسباب كافية تجعلها تعتقد بأحقيتها في تسويق نموذجها في الحكم، كما الحال بالنسبة للنظام الديمقراطي. وأيضا في ظل ازدهار تيار اليسار واقتناع قطاع واسع من الجمهور في المنطقة بعدم جدوى مساعي الديمقراطية علي الأقل في هذه الفترة. 
الخلاصة هنا أن سياسات قيس سعيد انعكاس أو مواقف تصالحية مع بيئةٍ لا تزال تتوفر على شروط الحكم المركزي التسلطي، لا الديمقراطي، سيما في ظل تراجع أولويات دول المعسكر الغربي الليبرالي (تأجيل التشديد على شرطية الدمقرطة)، وحيث لم تعد الشعوب والمجتمعات حكرا على وصفات المنظومة القيمية الليبرالية. وبالنظر إلى الدعم العلني والضمني الذي حظيت به قراراته داخليا وخارجيا، سوف يصل، في النهاية، إلى هندسة نظام رئاسي مركزي قوي، يستند إلى قيم الولاء والزبونية، غير أنه سيعيد إنتاج قيم المحسوبية والولاء والتضييق وقمع الحريات، وهي أسباب كافية لتحفيز  شروط  الرفض والثورة في المستقبل.

عبد الله راقدي
عبدالله راقدي
كاتب وباحث وأستاذ جامعي جزائري، له كتب ودراسات في الشؤون الدولية