سورية ونهاية العقد الثالث للقضاء على الاستعمار

سورية ونهاية العقد الثالث للقضاء على الاستعمار

30 ديسمبر 2020
+ الخط -

تسقط غدا الورقة الأخيرة في تقويم العام 2020، عام استهلّه المنجّمون، الذين يقال عنهم كذبوا ولو صدقوا، بتنبّؤات الشؤم الذي يلتفّ حول البشرية، فلا الطبيعة كانت رحيمة، ولا الإنسان كان رحيمًا، في توليفةٍ عجيبةٍ دفعت الغالبية من سكان الكوكب، ومن منطقتنا المنكوبة على وجه الخصوص، إلى اللهاث خلف خبرٍ أو إشاعةٍ مهما بدت بعيدة عن العقل، يبنون عليها من الوهم ما يكفيهم لمواجهة حياةٍ تأخذ بهم إلى الموت بطرقٍ لا تعدّ ولا تحصى. تسقط ورقة الروزنامة، بعد أن كانت قد سقطت قبلها ورقة التوت التي سترت عورات هذا العالم الوقح، الشره للدماء وحصد أرواح بني جنسه، بعدما ازداد تكبّره وتجبّره، وبلغا مستوى من التغول في الكون كلّه بلا سقف أو حدود لأطماعه، ولِنَهم رؤوس الأموال التي لا تشبع من الحبَل والولادة، ولادة أموالٍ من بعضها بعضًا، والإمعان في السيطرة وإمساك العالم من عنقه، عصابات المال في العالم تصنع للدول سياساتها وللشعوب مصائرها، وهي تمتصّ نسغ البشرية، وترمي المستضعفين في عماء الجهل والعوز والفاقة والتناحر، حتى لا يبقى في أفقهم مكانٌ إلاّ للفوز بالعظام التي ترميها لهم، بعد أن يتقاتلوا ويتذابحوا عليها.

لكن عالم ما بعد كوفيد 19 ليس كما قبله، المشترك الكبير الذي يمكن الاعتراف به أن الصراعات في العالم على الحيازة والسيادة مستمرّة، لكن العالم سيعيد ترتيب نفسه بموجب قوانين جديدة يفرضها اقتصاد كورونا. أجل، كورونا سوف يكون له القول الفصل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الشعوب أو الأمم على هذا الكوكب الذي يعاني، هو الآخر، كباقي مخلوقاته من ظلم وجور وغطرسة وحشٍ لا يشبه وحوشه الأخرى، يتفوق عليها مجتمعة، الإنسان. 

تاريخ البشرية المدوّن إلى اليوم يحمل عنوانًا صارخًا، الحرب ثم الحرب ثم الحرب، تاريخٌ قائمٌ على الاقتتال

تاريخ البشرية المدوّن إلى اليوم يحمل عنوانًا صارخًا، الحرب ثم الحرب ثم الحرب، تاريخٌ قائمٌ على الاقتتال. أما في القرن الماضي، فيمكن القول إن العالم، بقواه الكبرى، تنبّه إلى ما أحدثته الثورات السابقة، في مقدمتها الثورة الفرنسية، ملهمة الشعوب وصانعة الثورات، وراح يشكّل منظماته وهيئاته الدولية، التي يبدو، وبعد صراعات كثيفة وعنيفة، تغيرت معها خريطة العالم مرّات كثيرة، على الأقل بعد حربين عالميتين، تلتهما حربٌ باردة أيام كانت هناك قوة أخرى، تلتحق بها بعض الدول، وتشكل قوة وازنة في وجه أميركا وحلفائها هي الاتحاد السوفييتي، ما زالت آثارها، أن معظمها لا يملك القوة التي تمكّنه من فرض قراراته، خصوصا إذا كانت تنتصر قليلًا، وليس كثيرًا، لقضايا الشعوب المستضعفة، منظمات تبدو في غالبيتها اليوم كأنها آلية تنفيسٍ لغضب الشعوب، لكنها غير قادرة أو لا تملك من الكفاءة والتأثير على تطبيق الأهداف العريضة التي تشهرها.

أكثر من سبعين عامًا، منذ إعلان قيام دولة إسرائيل على حساب أصحاب الأرض، التي تشكل نموذجًا فاجرًا للاحتلال الاستيطاني، والقرارات تصدر وتطوى وتوضع في الأدراج، بينما إسرائيل ماضيةٌ في مشروعها بلا هوادة على مرأى العالم، وبمباركة معظم أقطابه وقواه. هناك محاولةٌ مستمرّةٌ لإنكار الحقوق التاريخية والقانونية للشعب الفلسطيني، وإسرائيل مدعومةٌ من أميركا، تواصل تجاهلها المجتمع الدولي، وتضرب عرض الحائط بالقانون الدولي، وتنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني، غير مكترثةٍ بالسلام الحقيقي والأمن والتعايش وتلقي التبعات بكل صفاقةٍ على الفلسطينيين، مثلما جاء في تصريح المندوب الدائم الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان: السلام في الشرق الأوسط يمكن تحقيقه فقط عبر المفاوضات المباشرة بين الأطراف، والتدخل الأممي غير ضروري، بل قد يحمل نتائج عكسيةً على حدّ تعبيره. بل اعتبر أن قرارات الأمم المتحدة لا تفشل فحسب في تعزيز السلام، بل كل واحد منها مدمر للسلام. 

سورية بعد سنوات عشر من الاقتتال والحرب والتهجير انتهت إلى دولة مقسّمة، ترفرف في سمائها راياتٌ ملوّنة، وتقع مناطقها تحت نفوذ قوى عديدة

ينتهي العام الكارثي، أو السنة الكبيسة بمعناها المجازي 2020، والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مصرّ على المضي بمشروعه حتى يومه الأخير، بعد أن تبرّع لإسرائيل بالقدس والجولان، على الرغم من عشرات القرارات الدولية في هذا الشأن، وأقرّ للمغرب بسيادتها على الصحراء الغربية، على الرغم من أن الأمم المتحدة قد صنفتها إقليما غير متمتع بالحكم الذاتي، ومن حق الشعب فيه تقرير مصيره عن طريق إجراء استفتاءٍ يختار فيه بين الاستقلال عن المغرب أو الاندماج معه، لقاء التطبيع مع إسرائيل، ويمضي في مشروع التطبيع جارًّا الدول العربية من رقابها التي تعتليها أنظمةٌ تنتمي إلى مصالحها وداعميها من الخارج، وليس إلى شعوبها، إلى التطبيع، وتاركًا سورية لمصائرها التي ما زالت مجهولة، تلعب بها القوى الدولية والإقليمية، وحتى بعض الأنظمة العربية. وبعد ثلاثة عقود دوليّة للقضاء على الاستعمار، كان العقد الثالث آخرها، فقد أقرّته الجمعية العامة في العام 2010 تحت الرقم 119/60/أ أعلنت فيه الفترة ما بين 2011 و2020 مرصودة له. 

وبحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مسألة إنهاء الاستعمار من أهم الفصول في تاريخ الأمم المتحدة. ومع هذا، ينتهي العقد بحالةٍ كارثيةٍ بالنسبة للشعبين، الفلسطيني والسوري على حدّ سواء. سورية بعد سنوات عشر من الاقتتال والحرب والتهجير انتهت إلى دولة مقسّمة، ترفرف في سمائها راياتٌ ملوّنة، وتقع مناطقها تحت نفوذ قوى عديدة، بعضها مساند للنظام وبعضها الآخر استباح الأرض السورية، وقام بغزو عسكري بحجّة محاربة الإرهاب وحماية الشعب. أما الإرهاب فلكل طرفٍ من الأطراف المسيطرة إرهابه الخاص. أما الشعب فقد صادرت قراره الجهة المسيطرة، وطرحت نفسها ممثلةً حصرية له، إن كان لجهة النظام أم المعارضة. ينتهي العقد الأخير والقضية السورية تزداد تعقيدًا من دون أي بصيص نور في نهاية النفق، ويبقى الاستعمار يتغلغل في الأراضي السورية، ويشرعن وجوده باتفاق عالمي وبازارات مصالح، حتى لو كانت تقام بدماء الشعب، وبإشعال المعارك في مناطق عديدة، بل صار قسم من الشباب السوري يستخدم في حروبٍ بعيدة لصالح أطراف النزاع.

هل بات قدر الشعب السوري أن يكون رهن احتلالاتٍ جديدةٍ أمام أعين الأمم المتحدة والشرعية الدولية والمجتمع الدولي في نهاية العقد الثالث للقضاء على الاستعمار؟

وما زال الأوصياء على الشعب السوري، على الرغم من كل القرائن التي يقدمها الواقع على أن لا العقود ولا المعاهدات الدولية ولا الأنظمة أو غيرها كانت صديقة للشعب، وداعمة لقضاياه، وأن كل الهيئات والمنظمات الدولية تقع تحت خيمة السياسة، ولا استقلال لقراراتها عنها، وغالبيّتها غير ملزمة. والمجتمع الدولي كلمة مطّاطة بيد الأقوياء، والشرعية الدولية من العبارات التي صارت تدعو إلى الاشمئزاز، خصوصا عندما يتفوّه بها ويتدرّع رؤساء الأنظمة المستهلكة التي لا تمتلك شرعيةً من شعوبها، وأن نتيجة السياسة التي أدارت الأزمة السورية كانت كارثية، ما زالوا ماضين في تعنّتهم، ومخلصين للأجندات التي يفرضها عليهم داعموهم وممولوهم، ولا يفعلون شيئًا غير تبديل الطرابيش فيما بينهم، في وقتٍ لم يعد لسورية هوية تخصها على الأصعدة كافة، فعلى ماذا يراهنون؟ وهل من بين ما يقارب 23 مليون سوري موزعين في كل بقاع الأرض، بين مقيمين في الداخل، تحت حكم قوى وأنظمة متعدّدة، وموزعين على دول اللجوء القريبة والبعيدة، لا يوجد عشرة أشخاص جديرين بأن يكونوا قادرين على استلام دفّة المصير لشعبٍ يؤمنون بقضاياه ويتألّمون لواقعه الكارثي، وينظرون إلى المستقبل المتربّص بالعالم بعين تتمتع بالرؤية السليمة؟ مستقبل يرجّ العالم من الآن، وإذا كانت بوابات الدخول إليه متاحةً بكثير من الجهد والعمل والإنجاز قبل اليوم، فإن هذا الدخول سيكون مستحيلاً، فيما لو بقيت قضية الشعب السوري مخنوقةً في عنق زجاجةٍ بات الكلس يحاصرها. وهل بات قدر هذا الشعب أن يكون رهن احتلالاتٍ جديدةٍ أمام أعين منظمة الأمم المتحدة والشرعية الدولية والمجتمع الدولي في نهاية العقد الثالث للقضاء على الاستعمار؟ ستسقط الورقة الأخيرة من الروزنامة، وليس من ورقة توتٍ بعد اليوم تستر عورات هذا المجتمع الدولي الجائر، وأولئك المدّعين شرعية تمثيل الشعب، ويتكلمون باسمه.