سورية .. تغيير الاستراتيجيات بعد عشر سنوات

سورية .. تغيير الاستراتيجيات بعد عشر سنوات

07 مارس 2021
+ الخط -

تحلّ، بعد أيام، الذكرى العاشرة لثورة بعض السوريين على الفقر والظلم والفساد والامتهان. ومع ما تحوّلت إليه الاحتجاجات السلمية إلى نزاع مسلح، سرعان ما صار مقتلة عبثية، ما زال بعضنا، وأنا لست معصوماً، يبدأ في مداخلاته، علمية كانت أم عامة، عند عرضه الوضع السوري أمام الغربيين والعرب، بالتطرّق بالتفصيل الرقمي مع الفواصل، إلى مأساة الشعب السوري، بذكر عدد الضحايا والمفقودين والمهجّرين داخليا واللاجئين خارجياً. ولا ينسى بالطبع أن يتوقف عند حجم الدمار الذي أصاب البنى التحتية من مشافٍ ومدارس ومصانع ومحطات توليد الطاقة، مزوداً المتابعين بالأرقام الكارثية بالتفصيل. ومن المؤكّد أنه سيشير إلى العدد الهائل من الأطفال الذين خرجوا من المسار المدرسي، ودخلوا سوق العمل أو الحرب أو الإجرام. كما لن تغيب الإحصائيات المتعلقة بالمعوَّقين جسدياً نتيجة القتال والمصابين نفسياً أيضاً.

يتأثر المستمع والمتابع الغربي أو العربي، أحيانا، بما ورد، وسيظهر ذلك جلياً في تعابير وجهه، خصوصاً إن كان من المجموعات والمنظمات التي تعتبر نفسها معنيةً بالقضايا الإنسانية الكونية. وربما يذرف هذا المتلقي دمعاً شحيحاً أو غزيراً. وبالتأكيد، سيسعى إلى أن يقترب من المحاضر، بعد نهاية حديثه، وبعد دقائق التصفيق العنيف الذي يلي المداخلة الدرامية، ليحضنه أو على الأقل ليعبر له بكلمة عن مدى تأثره وتضامنه. وبعد الخروج من القاعة، أو من غرفة الاجتماع، يلتفت إلى أموره اليومية أو، وفي أحسن الأحوال، سيسجل رأيه على وسائل التواصل الاجتماعي، ليؤكد إعجابه وتأثره وتضامنه.

عندما تدعم دول الشمال الديكتاتوريات العربية، ظنّاً أنها تحمي حدودها الجنوبية من الهجرة غير الشرعية والإرهاب، عليها أن تعرف أنه دعم سيأتي بنتائج كانت تسعى إلى عكسها أو هكذا تدّعي

والسؤال أمام هذا الواقع: أما صار من الضروري، وبعد مرور عشر سنوات من تكرار اللازمة الإنسانية نفسها، والتأثير معنوياً دقائق أو ساعات في بعض الناس، أن يتم توجيه التفكير نحو قياس مدى التأثير الفعلي في الأحداث ومساراتها لمثل هذه التوعية النبيلة؟ وتجاوز الرضى الذاتي الناجم عن تصفيقٍ أو تعبيراتٍ تلي التحسيس الإنساني والأخلاقي وتتوقف عنده؟

وحتى لا يكون الجواب مطلقاً، من الضروري ربما أن يستمر بعضهم في عرض مآسي الشعب السوري بتفاصيلها وأرقامها. وترتبط هذه الضرورة بمكان هذا النشاط وزمانه. أي إن كان نشاطاً موجّهاً إلى جمعياتٍ ومنظماتٍ تُعنى بالشأن الإنساني، وبمساعدة المدنيين أوقات النزاعات المسلحة، فالأداء محمودٌ، لا بل هو ضروري. أما إن كان الحديث موجّهاً إلى صنّاع القرار أو من يمثلهم أو حتى إلى جمهور من عامّة الناس، فيبدو أن هناك حاجة ماسّة لتغيير هذه الاستراتيجية.

فعند اللقاء ببرلمانيين أو بدبلوماسيين أو بساسة، يجب أن يكون المتحدّث على ثقةٍ بأنهم يعرفون كل ما سيسرده عليهم من أرقام ومن تفاصيل. وهذا بالطبع لا يعود إلى اهتمامهم الشخصي أو الإنساني، بل إلى حُسن أدائهم وظائفهم وأدوارهم، ما يتطلب منهم الاطلاع دائماً على ما نكرّره عليهم. وهم غالباً ما ينظرون إلى عقارب الساعة، متسائلين عن الوقت الذي سيتوقف فيه محدّثهم عن الغوص في مساعيه لتحريك مشاعرهم. وتتفاقم أهمية هذه الملاحظة بمرور عشر سنواتٍ على مقتلةٍ بشريةٍ لم يشهد لها عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية من شبيه. والقارئ هنا سيصرُخ بي سائلاً: وما العمل إذاً يا هذا؟

ليس اختراعاً للذرّة أن نشير إلى أن من يمثل مصالح دولةٍ ما مهتمة بالملف السوري معني أولاً وأخيراً بمصالح الدولة التي يمثلها

ليس اختراعاً للذرّة أن نشير إلى أن من يمثل مصالح دولةٍ ما مهتمة بالملف السوري معني أولاً وأخيراً بمصالح الدولة التي يمثلها. وهذا لا يحرمه أبداً، وفي أي حال، من الحق بالشعور الإنساني وبالتعاطف الأخلاقي، إلا أنه، في المقابل، يؤدّي عمله بمهنيةٍ يُحسد عليها غالباً، ويضع مشاعره في حقل الانتظار. وبالتالي، هو ينتظر غالباً من اللقاء أن يعرف تأثير الملف السوري، أو أي ملفٍّ آخر، في هذا المجال، أي في مجال مصالح الدولة أو مجموع الدول التي يمثلها. وعندما نعرف ذلك، ونحن غالباً ما نعرف ذلك، علينا إذاً أن نُغيّر نسبياً من الأداء بحثاً عن النتيجة. فمن الممكن، بكل تأكيد، أن نعرض لمسألة اللجوء من زاوية أخرى، تتعلق بوصول أعداد كبيرة منهم إلى سواحل الآخر، وتأثّر سياساته العامة بهذه الموجات المتعاقبة، والتي لن تتوقف، ما دام الصراع مشتعلاً والعدالة مفتقدة والدمار مسيطرا. كما أن استعراض أرقام الدمار المادي لا يجب أن يتوقف عند مرحلة الحصول على التعاطف، بل عليه أن ينتقل إلى إشعار المُخاطَب بمدى تأثّر مصالح من يمثل بهذا الملف من خلال عملية إعادة الإعمار وربطها بعملية الانتقال السياسي، المنصوص عليها أممياً.

ما يصحّ في معالجة الملف السوري يمكن تعميمه عربياً، بحيث يتم التركيز عند الحديث عن الأنظمة المستبدّة، ليس فقط على أعداد المعتقلين، وعلى الانتهاكات الجارية لحقوق البشر، بل على انعكاس تفاقم هذا كله على البلاد الأوروبية، من حيث موجات اللجوء وانعدام الاستقرار وتفاقم الإرهاب، فعندما تدعم دول الشمال الديكتاتوريات العربية، ظنّاً منها أنها تحمي حدودها الجنوبية من الهجرة غير الشرعية ومن الإرهاب، وتحافظ على الاستقرار اللازم للاستثمار الاقتصادي الرابح، فعليها أن تعرف أن هذا الدعم سيأتي بالتأكيد بنتائج كانت تسعى إلى عكسها أو هكذا تدّعي.