سلمى ... نجمة خارج الأفق

سلمى ... نجمة خارج الأفق

27 ابريل 2023
+ الخط -

قبل ثلاث سنوات، وبعد أن وجد العالم في نوافذ الإنترنت المفتوحة حلولا تُجابه العزلة التي فرضتها جائحة كورنا على البشر، حظيتُ، مع آخرين، بدعوةٍ ممميزةٍ من الشاعرة الصديقة فوزية أبو خالد للمشاركة بأمسية شعرية تعقد عبر منصّة زوم. كان الإغراء الحقيقي لنا، نحن المدعوين للأمسية، أنها ستكون بحضور (ومشاركة) سيدة التثاقف العربي الشاعرة والباحثة الفلسطينية الكبيرة سلمى الخضرا الجيوسي، التي رحلت عن دنيانا مطلع هذا الأسبوع في عمّان ... رحمها الله.

كان حضورا نادرا وباهرا للسيدة التي عبرت بوابة التسعين من عمرها، وبقيت محتفظة بكثير من نضارتها الإبداعية، حتى أنها فاجأتنا عندما طلبنا منها أن تقرأ شيئا من قصائدها القديمة التي نشرتها في ديوانها الأول والوحيد الصادر في العام 1960 بعنوان "العودة من النبع الحالم"، فقالت إنها أيضا ستقرأ ثلاث قصائد جديدة لم تُنشر من قبل.

كان صوتها الذي عاد إلى مرافئه الأولى على هامش القصيدة الآن يتعالى شيئا فشيئا لينتصر على رداءة التوصيل في الشبكة الإلكترونية ويصل إلينا عذبا وأنيقا: "صفونا مع الدهر ... كالبحر/ مرّت علينا الرياح/ وهبّت علينا العواصف لم تَغوِنا/ ولم تنتقص من هوانا السنين/ وما شربته السماء أعادته/ حتى النهاية يبقى الحنين/ إلى نكهةٍ لم نذقها/ إلى رحلة لم نُمارس ضناها/ إلى نجمةٍ خارج الأفق لم نكتشف مرتقاها/ إلى بسمة من إله بديع يضيء الحنايا سناها.. / صفونا مع الدهر، لم تنتقص من هوانا السنين.. وهذي التجاعيد حول الجفون شذاها".

قالت سلمى، بفرح غامر، إن هذه القصيدة تقرأها للمرة الأولى، والقصيدتان اللتان ستقرأهما بعد قليل أيضا، من ديوان جديد "قد" يصدًر لاحقاً!. ... ثم صدر الديوان فعلا بعد تلك الأمسية بعام، أي بعد صدور ديوانها الأول بنحو 60 عاما، بعنوان "صفوْنا مع الدهر"، وهو عنوانٌ يشير الى موقف الشاعرة من الحياة أخيرا، بعد أن عاشت صراعا مستمرّا وعلى أكثر من مستوى طوال عقود، كانت فيها سلمى محاربةً شرسةً ومقاتلة عنيدةً وباحثةً دؤوب وشاعرة أصيلة، إذ انتصرت بفضل هذه الصفات في كل معركةٍ خاضتها وهي كثيرة.

صفت سلمى، إذن، مع الدهر بمرور السنين التي قد تكون نجحت في ترك التجاعيد حول عينيها، لكنها لم تستطع هزيمة روحها الوثّابة، ولا إطفاء جذوة الأمل في قلبها، ولا فكّ التقاطعات المثيرة في حياتها، فقد بقيت الشاعرة المبدعة، والناقدة التي أسهمت ببناء مدرسة نقدية عربية تتكئ على أصالتها القصيدة وتحلق بحداثتها، من دون أن تشعر بتناقضٍ ما، والفلسطينية التي حملت ملفّ قضيّتها في كل محفلٍ شاركت فيه، وكانت صوت فلسطين الهادئ المقاوم عبر الكتابة، والباحثة الموثّقة المترجمة في مشروعها المعرفي الضخم "بروتا"

Project of Translation from Arabic – PROTA)) الذي نهضت لابتكار فكرته والعمل عليه منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بهدف ترجمة مختاراتٍ موسّعة من الأدب العربي في كل عصوره إلى القارئ باللغة الإنكليزية. ولم تقف عند ذلك، بل أتبعته بمشروع آخر عنوانه "رابطة الشرق والغرب"، بهدف التعريف بالثقافة العربية والإسلامية لدى القارئ الغربي، عبر إصدار عدة مجلّدات ضخمة حاولت الإحاطة بهذه الثقافة منذ ينابيعها الأولى وحتى مصبّاتها الحاضرة.

ومن الواضح أن سلمى التي حاولت دائما أن تزاول عملها البحثي بدقّة وموضوعية، انحازت دائما للأدب العربي وممكناته الحاضرة، فعندما أتيح لها أن تًسهم في تحكيم جائزة نوبل للآداب، كتبت تقريرها عن نجيب محفوظ الذي ساهم بفوزه بالجائزة الأشهر، لكنها عادت لاحقا لتُصدر حكمها عليه: "لا أعتبره كاتبا ممتعا وليس روائيا عظيما على أية حال، رغم أنه أرسى قواعد الرواية العربية"، وهو ما يؤكّد أنها كانت تنحاز للأدب العربي وتحاول أن تضعه على خريطة الاعتراف العالمي به من نافذة الفرصة المتاحة، وهي نافذة نجيب محفوظ!

رحم الله سلمى الخضراء الجيوسي التي كانت نجمةً حقيقية خارج الأفق فعلا.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.