سباق انتخابي في أميركا ونبض يتسارع في المغرب

سباق انتخابي في أميركا ونبض يتسارع في المغرب

07 نوفمبر 2020
+ الخط -

يحدُث أن تشيع وقائع ومستجداتٌ في المغرب، وأخرى دولية، انقساماتٍ ونقاشاتٍ غزيرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت فضاءً خصبا وحيويا لتبادل الآراء، ولتظهير استقطاباتٍ تجعل من هذه الوسائل أحيانا سلطة ضد السلطة، وأحيانا سلطة في يد السلطة، بعدما صارت الشبكات الرقمية سلطة افتراضية حقيقية وبأثر واقعي، وإنْ كانت السجالات والحروب الباردة والضارية لا تسلم، في مناسباتٍ كثيرة، من منزلقاتٍ أخلاقيةٍ في التعبير عن المواقف من أطراف الاستقطاب. 

وبعدما اشتد سعير النقاش أخيرا بشأن رسوم الكاريكاتير المسيئة للنبي محمد وحملة مقاطعة المنتجات الفرنسية، ها هي الانتخابات الأميركية تجد لها صدىً على الفضاء الأزرق بين المغاربة، وتعكس الألوان السياسية المتخفية وراء البروفايلات، من مع اللون الأزرق الديمقراطي، ومن صار فجأة أحمر، ليس لثوريته الطارئة، وإنما هي حمرة خجل فاضح في الكشف عن الميول الترامبية، خجل يتوارى أحيانا خلف خطاب تسفيه معنى متابعة هذه الانتخابات من لدن أناس تفصلهم آلاف الأميال عن الولايات المتحدة، وهو خطاب يسود كلما بدت بوادر طفيفة لتقدّم مرشح الديمقراطيين جو بايدن.

بعض من مناصري ترامب على الشبكات الاجتماعية مدافعون عن حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية

هناك شعورٌ بمراقبة محترسة ومحترزة لما يحدث في الصناديق الأميركية، وما يكتب على صفحات مغربية، والغريب الاصطفاف المنسجم الذي لا يمكن أن يكون خاليا من معنى، ففي مرحلة السلوك الافتراضي هاته، يتداخل حدثان كبيران: واحد في الجارة الأوروبية والمستعمر السابق، فرنسا، والثاني في بلد لطالما افتخر المغرب الرسمي بأنه من أوائل من اعترفوا بقيامه، وهو الولايات المتحدة الأميركية. المغرب الذي يحتفظ بعلاقات جد قوية مع فرنسا أدلى بموقف رسمي ضد الاستمرار في نشر الكاريكاتير المثير للغضب، وفي الوقت نفسه، يحاول إخماد حملة المقاطعة، عبر هيئات دينية وبعض الأصوات الإلكترونية، فعلى الشبكات الاجتماعية تحرّكت آراء الصف المعروف بقربه من السلطة، وبانسجام مواقفه وأطروحاته حينما تتعلق بالانسجام مع موقف رسمي، معلن أو غير معلن، "تحرّكت" في اتجاه تسفيه المقاطعة، تارّة بالقول بتأثيرها الخطير على الاقتصاد الوطني، وبتهافت خطابها تارة، وأحيانا برجم الداعين إليها بحجّة مناصرة تركيا. 

لا يعني هذا أنه ليس من ضمن المناهضين للمقاطعة ثمّة آراء تعبر عن تقديراتها الشخصية. ولا يعني أنه ليس من ضمن المساندين للمقاطعة من هم من مساندي خطاب الرئيس التركي أردوغان، غير أن الأمر الذي له دلالة في العلاقة مع الإلكترونات غير الحرّة السابحة في الفضاء الأزرق اصطفافها المعلن ضد المقاطعة، ثم الظاهر والمحتشم أحيانا مع ترامب. للأمر تأويلات سياسية وإيديولوجية كثيرة لا تعلن جميعها، لكن الأهم هو ذاك التحسب للأثر المعنوي الذي يمكن أن يخلفه انتصار بايدن في وسط اتسم، في السنوات الأخيرة، بالانزلاق الحاد نحو اليمينية، ونحو تسفيه الديمقراطية وتشغيل آلة كسح الحريات بسرعتها القصوى، بالموازاة مع تلميع شعار غير برّاق، بسبب عدم وجود نتائج واقعية له في المغرب، وهو شعار أولوية التنمية، كأن التنمية خصم للديمقراطية، وكأن النقاش الديمقراطي هو هدر للزمن التنموي، في موقف يشترك فيه عديدون ممن نصبوا أنفسهم، طواعية أو تم تنصيبهم افتراضيا سدّا افتراضيا يحمي انحسار الحرّيات، ويزكّيه ويشرعنه، ويقف ضد الحراكات الاجتماعية، ويتهمها بالخيانة، وتلقي الدعم الخارجي، ويدين مسبقا نشطاء وصحافيين ومدونين، قبل أن تدينهم المحكمة. وفي أحسن الحالات، قد لا يندّد بواقع التضييق عليهم، ويقف صامتا ناطقا بغلبة منطق الغلبة، ومن ضمنهم سياسيون مقتنعون ربما، ويحاولون إقناع الآخرين بأولوية خطاب التنمية على أي خطاب آخر، جديدهم برلمانية سابقة، قدّمت، أخيرا، استقالتها من المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، وأدلت بتصريحاتٍ تعبر عن نيتها مغادرته نهائيا. وقد أدلت بكلام تلوم فيه الحزب على المغالاة في "النقاشات حول الاختصاصات الدستورية والعملية الديمقراطية"، بنبرة تتفّه هذا النقاش، على الرغم من أن الأزمة التي تشكو منها نخبة واسعة هي انحسار النقاش السياسي وطغيان الصمت. ومع ذلك، تنصحهم بمزيد من الصمت.

تأويلات سياسية وإيديولوجية كثيرة لا تعلن جميعها، لكن الأهم هو ذاك التحسب للأثر المعنوي الذي يمكن أن يخلفه انتصار بايدن في وسط اتسم، في السنوات الأخيرة، بالانزلاق الحاد نحو اليمينية

وعودة إلى موضوع الانتخابات الأميركية، فبعض من مناصري ترامب على الشبكات الاجتماعية هم مدافعون عن حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وليست لهم ميولات يمينية داخليا، لكنهم لا يشعرون بحرج في التعبير عنها خارجيا. وثمة آخرون يحكمهم منطق أنه لا بد أن يصل العالم إلى أقصى مستويات الابتذال، لتتعرى أوجه "الإمبرياليين" كما يقولون، أو لكي تندثر ألوان البين بين، ومن بينهم من يلوم بايدن على عدم عدائه الإسلاميين، في حين أبدى ترامب فعاليةً في هذا الباب، في نظرهم، وليس من المستبعد أن يدعموا توجه مارين لوبان اليميني المتطرّف في الانتخابات الفرنسية المقبلة.

وبتأرجح الأرقام بين التقدم الطفيف لبايدن أحيانا وتقهقره وتقدّم خصمه الجمهوري، تتأرجح كذلك التفاعلات، ويتصاعد مستوى الترقب واللهفة خلف لوحات المفاتيح، وخلف الهواتف الذكية. قد ينفلت فرح الترامبيين المغاربة بخجل في التعبير عنه، وقد يقرأ فرح الديمقراطيين على أنه يشي برغبة في "زعزعة الاستقرار" من لدن بعضهم. يبدو الأمر كاريكاتوريا، لكن حدّة الاستقطاب والتنميط أخذت المشهد إلى حدّه الأقصى في الكاريكاتورية، وصار ما كان في عداد النكتة سابقا يمارس واقعيا، ومن ضمنه مقطع للفنان المغربي الساخر، بزيز، وهو يعلق على شخص يكاد يفتح فمه بالقول له: تريد أن تقول شيئا، قل، قل.. يقول ذلك بنبرة ساخرة صارمة واتهامية، متقمّصا قدرته على اكتشاف أن مخاطبه يريد التعبير عن موقف منتقد للسلطة، لكنه يتدثر بالتثاؤب.. هكذا صار المزاح والمزاج المحيط بالفريقين، كل واحد ينوي أن يقول للآخر: قل، ماذا تريد أن تقول؟ 

أسلوب التسفيه من الأساليب الأكثر قدرةً على الإحباط، وهو يكون إما تكتيكا لمواربة الخوف من الهزيمة، أو للتخفيف من أثرها إذا ما حدثت، أو تقليلا من قيمة انتصار الخصم المفترض

أسلوب التسفيه من الأساليب الأكثر قدرةً على الإحباط، وهو يكون إما تكتيكا لمواربة الخوف من الهزيمة، أو للتخفيف من أثرها إذا ما حدثت، أو تقليلا من قيمة انتصار الخصم المفترض، وكلها أمور تدور حول شحنة معنوية بطعم السياسة، فقد لا يتغير العالم مع بايدن، وقد لا يكون بالضرورة صوتا ضاغطا على الأنظمة السلطوية، كي تتراجع عن اعتقال مئات معتقلي الرأي في مصر وتركيا والجزائر والمغرب .. ولن يعدّل ربما في خريطة المصالح في الشرق الأوسط، وقد لا يسحب البساط من تحت الأرجل الثقيلة للفرنكوفونيين في منطقة المغرب الكبير. و قد لا يجرؤ على غلق سفارة واشنطن في القدس المحتلة .. الأمر كله يتلخص في أثر الشعور بالانتصار نفسيا، أو بالهزيمة نفسيا. والشعور النفسي الذي تخلفه هزيمة ترامب المفترضة أقوى مما قد يعنيه انتصار بايدن نفسيا. وليس هذا الشعور بلا قيمة، فهو يخفّف من معدلات الخوف الذاتي والرقابة الذاتية في الصف المغلوب الآن، ويرمي بها في الصف الآخر. 

السباق هناك في أميركا، وتسارع خفقان دقات القلب لدى مراقبين في المغرب وفي بلدان شتى، مغاربية ومشرقية، بل وحتى لدى غربية منها، استفادت أنظمة يمينية فيها من ظرفية كورونا، للتراجع عن مكتسباتها التاريخية في مجال الحريات والديمقراطية، والحجْر الصحي الثاني الذي بدأ بشكل مضطرد في بلدان أوروبية، فإلى جانب دواعيه الصحية، لا يتوانى كثيرون في نقاش أبعاده السياسية، ومحاولة تغطية الفشل في إدارة الأزمة بمعايير تلك البلدان طبعا، لأنه من خطابات التسفيه لدينا هو تلك المقارنات الخارجة عن منطق النسبية، فيقول لك بعضهم: إذا كانوا هم قد فشلوا وهم يؤدّون (يدفعون) أجورا وتعويضاتٍ للمتوقفين عن العمل وللشركات، فماذا يكون وضعنا.. هل هذا فشل؟ متناسين أن الفشل نسبي مقارنةً بما يعنيه النجاح في كل سياق، ومتناسين أن تكبيل حرية المواطنين في البلدان المتشبعة بقيمة الحرية لا يشفي غليلها، تجاه خسارتها، تلك التعويضات المالية في مقابل أن يجلسوا في بيوتهم، وتحكمهم حالة الطوارئ، ويسحب بساط القيم الديمقراطية والمساواة من تحت أرجلهم بتؤدة. .. هذا ربما قد يقنع بعض التنمويين التنويميين (من التنويم) الذين يجعلون قيمة الحرية في درجة أخيرة لدينا.

سعيدة الكامل
سعيدة الكامل
كاتبة وإعلامية مغربية