رُبَّ عذر أقبح من زلة غوتيريس

رُبَّ عذر أقبح من زلة غوتيريس

19 أكتوبر 2020

غوتيريس في الهواء الطلق أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك (17/10/2020/Getty)

+ الخط -

انتهى موسم الخطابات والسّجالات في أول تجمع افتراضي للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي تحتفل في نيويورك بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لإنشاء المنظمة الدولية. انتهت طقوس التعبير عن السخط والشجب والإدانة، والفرح والسرور والسعادة، فضلا عن الاتهامات المتبادلة بين الدول الأعضاء عبر خطابات مسجلة مسبقا، تم بثها في قاعة الجمعية عبر الفيديو بسبب جائحة كورونا. تبين للجميع أنه لا فرق بين الحضور الافتراضي والحقيقي هذه السنة، وأن مستقبل المنظمة بات "قاب قوسين أو أدنى"، إذ أصبحت تصريحاتها شبه اليومية بشأن مصائب العالم مجرّد كلام فارغ، لا يعيره الحكام أدنى اهتمام، وباتت قراراتها لا تسمن ولا تغني، وتقاريرها موجهة للاستهلاك الإعلامي.
كان موقف المنظمة الأممية هذه السنة أضعف بكثير من ذي قبل، باعتراف أمينها العام، أنطونيو غوتيريس، الذي عانى الأمرّين، قبل أن يُقنع أعضاء مجلس الأمن بفكرة وقف إطلاق نار عالمي يتيح مكافحة جائحة كورونا، إذ تم اعتماد القرار بعد 111 يوما من إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كوفيد - 19 جائحة عالمية. وعلى الرغم من فشل الأمم المتحدة الذريع في تحقيق هدفها الأساسي، المتمثل في حفظ السلم والأمن الدوليين، يدافع غوتيريس عن وجود المنظمة، بحجة أنها حالت دون نشوب حرب بين القوى العظمى: "إن أكبر إنجاز للأمم المتحدة مع اقترابها من الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها هو الفترة الطويلة منذ الحرب العالمية الثانية التي لم تقاتل فيها القوى الكبرى بعضها بعضا، وتم تجنب الحرب النووية". وأضاف، في مقابلة أجراها الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) مع وكالة الأنباء الأميركية، أسوشييتد برس، إن أكبر إخفاق للمنظمة هو عدم قدرتها على تجنب انتشار الصراعات المتوسطة والصغيرة.

حسب غوتيريس، العالم يجب أن يهلل ويرقص فرحا، لأنه لم يشهد "المواجهة الضخمة" بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة

حسب هذا المنطق الأممي العجيب، فإن مئات الملايين من شعوب العالم التي عانت وما زالت تعاني من الاحتلال والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، نتيجة تقاعس المنظمة الدولية عن تأدية مهمتها الأمنية، يجب أن تهلّل وترقص فرحا، لأن العالم لم يشهد "المواجهة الضخمة" بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة. وعلى الشعوب العربية أن تحمد ربها لأن القوى العظمى لم تشهر أسلحة الدّمار الشامل في وجه بعضها بعضا، بل تكرّمت عليها وفتحت أبواب جهنم على بعض دول المنطقة، بأسلحتها الفتاكة، وقرارات الأمم المتحدة الجائرة، ورعايتها أنظمة طاغية ومتواطئة.
على العراقيين أن يشكروا غزاتهم وينحنوا إجلالا لأميركا وبريطانيا، لأنهما لم تعلنا الحرب على الدول المدجّجة بالأسلحة النووية، واكتفتا بغزو العراق وقصف شعبه وزعزعة استقرار دول الجوار وزج البلاد والمنطقة في أحضان ملالي إيران. أما ملايين السوريين والليبيين الذين شُرّدوا داخل جحيم بلدانهم وخارجها، فليعتبروا أنفسهم محظوظين لأن روسيا وأميركا وفرنسا وبريطانيا والصين لا تقتتل في أوطانها العظمى، فوق أراضيها الآمنة، ولا تعرّض شعوبها لخطر الموت والضياع، بل فضّلت أن تحوّل سورية وليبيا إلى ساحة حروب بالوكالة، حروب لا نهاية لها للهيمنة على الشرق الأوسط، والسطو على موارده، وإغراقه بأسلحة الخراب الشامل في ظل انبطاح حكامه.

يُفهم من غوتيريس أن الحروب التي تؤجّجها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن تندرج في "الصراعات المتوسطة أو الصغيرة" التي يجب التعايش معها

أما الشعب الفلسطيني، فما عليه إلا أن ينسى أن الأمم المتحدة كانت سببا في معاناته، حين مرّرت مشروع تقسيم فلسطين في العام 1947، بعد إنهاء الانتداب البريطاني في خرق صارخ لالتزاماتها المنصوص عليها في المادة 77 من ميثاقها، والتي عليها، في حال إنهاء الانتداب، أن تعترف بحق شعب فلسطين بتقرير مصيره، أو أن تضع البلاد تحت نظام الوصاية. لا يحق للفلسطينيين أن يحاسِبوا المنظمة أو يعاتبوها على قرار جمعيتها العامة 181، والذي انتزعت بموجبه جزءًا من فلسطين ومنحته بلا حق لليهود الذين انقضّوا على هذه الهبّة الأممية، وأقاموا دولة إسرائيل الاستعمارية، وتوغلوا في الاحتلال والتمدّد بين نهر الأردن والبحر المتوسط، حتى أصبح قيام دولة فلسطينية مستقلة على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية في حكم العدم.
يُفهم من كلام غوتيريس أن كل الحروب التي تؤجّجها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، أو الخمس الكبرى، أو تتجاهلها، تندرج في خانة "الصراعات المتوسطة أو الصغيرة" التي يجب التعايش معها، بما في ذلك حرب اليمن، والاعتداءات المتكرّرة على لبنان، وصراع "الصحراء الغربية". ويُفهم من هذا الطرح أن معاناة الشعوب لا تقاس بعدد الضحايا وبشاعة الجرائم وانعدام شرعية الحروب، وإنما بحجم الدول التي ينتمون إليها، والسلاح الذي يُقتلون به، وأنه لا ضير في أن تذوق الدول الصغرى ويلات الفقر والحروب، ما دامت القوى العظمى تعيش في نعيم وأمان. هذا الفكر التمييزي الساخر يفسّر، إلى حد كبير، أن الأمم المتحدة لم تحرك ساكنا تجاه مذابح الإبادة الجماعية التي لا تقل فظاعةً عن جرائم الفاشية والنازية.
لقد مضى على مصادقة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها أزيد من 72 سنة، ولم تُفَعِّلها الأمم المتحدة، ولو مرّة واحدة، وسجّل التاريخ أنها وقفت في أعلى برجها وقفة المتفرّج على مجازر راح ضحيتها ملايين المدنيين في كل من كمبوديا ورواندا وسربرنيتسا والعراق ودارفور وميانمار وسريلانكا وغيرها. ونظرا إلى غياب إرادة الخمس الكبار في الحد من جرائم تصفها أدبيات الأمم المتحدة بأنها أكبر خطر يهدّد حياة البشرية واستقرارها، باتت هذه الاتفاقية كما وصفها الباحث يورغ شوارزنبرغر ساخرا: "غير ضرورية حين يمكن تطبيقها وغير قابلة للتطبيق حين تستدعيها الضرورة".

يدرك الخمس الكبار قواعد اللعبة ووجود الأمم المتحدة لن يمنع حرباً نووية، وإنما امتلاك هذا السلاح المروّع هو الذي يشكل أهم آلية ردع في العالم المعاصر

ليس محسوما إن كان غوتيريس يعي ما يقوله، حين زعم أن أهم إنجاز للأمم المتحدة يكمن في أن الحرب الباردة لم تتحوّل إلى حرب ساخنة، أم إن ما قاله لا يعدو أن يكون مجرد زلّة لسان. ولكن الدبلوماسي البرتغالي مخطئ في الحالتين، لأن عدم دخول الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي في حربٍ مباشرة لا يمكن أن يُنسب، في أي حال، إلى إنجازات الأمم المتحدة، وإنما يعود إلى أن الجانبين مدجّجان بأسلحةٍ نوويةٍ بإمكانها أن تدمّرهما معاً وفي آن واحد إذا ما قرّرا إعلان الحرب على بعضهما. مثل هذا القرار الانتحاري لم ولن يحدث في ظل توازن القوة أو ما يعرف بـ "توازن الرعب" الذي يضمن التدمير المتبادل المؤكّد في حالة نشوب حرب بين أطراف نووية.
يدرك الخمس الكبار قواعد اللعبة ووجود الأمم المتحدة لن يمنع حرباً نووية، وإنما امتلاك هذا السلاح المروّع هو الذي يشكل أهم آلية ردع في العالم المعاصر. لقد اتضح ذلك منذ ألقت أميركا قنبلتين نوويتين على رؤوس سكان مدينتي هيروشيما وناغازاكي في أغسطس/ آب 1945. فلتتوقف المنظمة عن التلويح ببعبع "الحرب العالمية الثالثة" و"الحرب النووية بين الكبار"، ولتأخذ مأساة شعوبنا على محمل الجد، أو لتذهب إلى مزبلة التاريخ، حيث تخلد مثيلتها "عصبة الأمم".

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري