دورة يسارية جديدة في أميركا اللاتينية

دورة يسارية جديدة في أميركا اللاتينية

23 يونيو 2022

غوستافو بيترو يحتفل بفوزه بالرئاسة مع أنصاره في العاصمة بوغوتا (19/6/2022/Getty)

+ الخط -

لم يكن فوز غوستافو بيترو، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في كولومبيا الأحد الماضي، حدثا عاديا، لاعتبارات كثيرة. فلأول مرّة يصل مرشح يساري إلى الرئاسة في هذا البلد المعروف بتركيبته الاجتماعية المحافظة. كما أن نسبة الأصوات التي حصل عليها بيترو تجاوزت النصف (50.44 %)، مقابل 47.31% حصل عليها منافسه رجل الأعمال اليميني رودولفو هيرنانديث الذي يصفه بعضهم بأنه دونالد ترامب كولومبيا، هذا إضافة إلى الجذور السياسية الدالة للرئيس الجديد الذي كان، في شبابه، مقاتلا ضمن ''حركة 19 أبريل'' اليسارية في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يغادرها (1990) ويلتحق بالعمل السياسي السلمي.

تتطلّع فئاتٌ واسعةٌ في كولومبيا إلى أن يكون فوز غوستافو بيترو نقلةً نوعية، في بلد عانى طويلا من عدم الاستقرار السياسي نتيجة الحرب الأهلية الطويلة التي تواجهت فيها الحكومات الكولومبية المتعاقبة وتنظيمات اليسار المسلح، وفي مقدّمتها حركة فارك. وعلى الرغم من اتفاق السلام الموقع (2016)، إلا أن أحوال البلد لم تتغيّر كثيرا بسبب نفوذ النخب اليمينية المحافظة وهيمنتها على الاقتصاد وارتفاع نسبة الفقر والتفاوت الطبقي. وهو وضعٌ يبدو أن بيترو يعيه جيدا، فقد أكّد عزمه على إحداث توافق وطني واسع يفتح المجال أمام إصلاحات كبرى تنصبّ على تعزيز السلم الأهلي، وإقرار المساواة والعدالة الاجتماعية، وإصلاح قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وإنجاز إصلاح زراعي يحدّ من الملكيات العقارية غير المنتجة، وإصلاح النظام الضريبي، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية بإدماج النساء والشباب، وإعادة الاعتبار للجماعات الأصلية في الأرياف، والاهتمام بقضايا النوع والعرق والبيئة.

من ناحية أخرى، يندرج فوز بيترو ضمن سياق إقليمي يتسم بعودة قوية لليسار، بدأت قبل أربع سنوات، حين وصل أندريس لوبيث أوبرادور إلى السلطة في المكسيك (2018)، ثم تبعه ألبرتو فيرنانديث في الأرجنتين (2019)، ولويس آرثي في بوليفيا (2020) وبيدرو كاستِيّو في البيرو، وزيومارا كاسترو في هندوراس، وغابرييل بوريك في تشيلي (2021). تعكس هذه العودة دورة يسارية جديدة، من عناوينها البارزة تحولٌ دالٌّ في رؤية اليسار في كولومبيا، وأميركا اللاتينية بوجه عام، إلى سيرورة الصراع الاجتماعي ومآلاته، من خلال بوادر قطيعة كبرى مع خيار التغيير الراديكالي الذي طالما نادت به تنظيمات اليسار المسلح. لم يعد فيديل كاسترو وهوغو سانشيز يشكلان المثال الثوري الذي يُفترض أن يسير اليسار في أميركا اللاتينية على هديه، في ظل وعيٍ متنامٍ لدى الجيل الجديد من قادة هذه اليسار بضرورة الأخذ بمبادئ الديمقراطية والتداول على السلطة واحترام التعدّدية الفكرية والإيديولوجية، والابتعاد عن النزعة السلطوية والشعبوية التي طبعت خطاب اليسار التقليدي، وساهمت في تغذية الاستقطاب الاجتماعي وإثارة مخاوف اليمين المحافظ الذي يبقى رقما رئيسا في معادلة السلطة والثروة والنفوذ، لا سيما أن تحالفاته تتجاوز الحدود الداخلية لدول الإقليم نحو مراكز القوة في العالم، وتحديدا الولايات المتحدة.

ظلّت كولومبيا من البلدان القليلة في أميركا اللاتينية التي لم يفز فيها اليسار بمنصب الرئاسة بسبب تركيبتها المحافظة. ولا شك أن فوز غوستافو بيترو يضع المنطقة، اليوم، على درب تحوّلٍ عميق، وبالأخص إذا ما نجح الرئيس البرازيلي الأسبق، لولا دا سيلفا، في العودة إلى السلطة خلال الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، على اعتبار أن ذلك سيفتح المجال أمام تأسيس كتلة يسارية تقدّمية وازنة أكثر فهما لديناميات الصراع الاجتماعي وميزان القوى وأولويات شعوب المنطقة، وهو ما سيشكّل تحدّيا جديدا، ليس فقط لليمين المحافظ، بل أيضا للولايات المتحدة التي طالما اعتبرت أميركا اللاتينية حديقة خلفية لمصالحها. ومع صعود المارد الصيني، وتطلعه إلى توسيع دوائر نفوذه الاقتصادي، يزداد هذا التحدّي صعوبة ويأخذ أبعادا جديدة، في ظل القلق المتزايد لواشنطن من هذا الصعود وتكلفته بالنسبة لنفوذها في المنطقة.