تونس .. ثورة لم تكتمل

تونس .. ثورة لم تكتمل

27 يوليو 2021
+ الخط -

تحوّلت الأنظار والعدسات الإعلامية صوب تونس، بعد القرار الرئاسي، المعلن الليلة قبل الماضية، القاضي بتجميد عمل البرلمان وتعليق حصانة كلّ النواب، وإقالة رئيس الوزراء، ما اعتُبر انقلاباً على الشرعية الدستورية، وهو توصيفٌ صحيحٌ، لكنّه مضلل قليلاً، نظراً إلى حجبه صورة الوضع التونسي الحقيقي. هذا التوصيف يعمل على تصوير الأزمة التونسية، كأنّها أزمة تشريعية أو دستورية فقط، بما ينسجم مع ما روّجته أطراف النزاع السياسي التونسي في الأشهر الماضية، من الرئيس قيس سعيد إلى حركة النهضة ممثلة برئيسها ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، مروراً برئيس الوزراء هشام المشيشي. وهو ما يسحب البساط من يد الشارع التونسي المحتج على أوضاع تونس الحقيقية وأزمتها التي يسهل تلمسّها في تفاصيل الحياة اليومية اقتصادياً وخدمياً وصحياً وتعليمياً، وفي متابعة أخبار تونس الاجتماعية والاقتصادية.
لكن، قبل الولوج إلى توضيح أزمة تونس العميقة، والتي شهدنا جديد فصولها مساء الأحد 25/7/2021، لا بدّ من العودة قليلاً إلى الخلف، وبالتحديد إلى الثورة التونسية، وما تبعها من مسار سياسي ديمقراطي المظهر، فهذه الثورة كغالبية الحركات الاحتجاجية والثورية في المنطقة ذات أهداف متعدّدة اقتصادية واجتماعية وسياسية. وبالتالي، لا يصحّ حصرها في خندق الانتخابات فقط، وكأنّ الأخيرة هي الحلّ السحري والناجع. نعم، تمثل الانتخابات وكامل العملية الديمقراطية إحدى ركائز الحلّ، فهي جزء من أهداف الثورة، لكنّها جزء من كُلّ أعم وأشمل، يتضمن تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية وتطوير العملية الاقتصادية الإنتاجية، بما يقضي على البطالة والفقر والتهميش، ويقلّل، إن لم نقل يقضي، على الفوارق الطبقية الصارخة، وكذلك يتضمّن تحقيق الرعاية الصحية المجّانية والكافية والشاملة والوافية لجميع أفراد المجتمع، لا سيما المفقرين منه، وتطوير التعليم وربطه بالاقتصاد المنتج، وضمان حق التعليم لجميع أبناء تونس وبناتها منذ الصغر وحتى المراحل الجامعية وما بعد الجامعية. فهذه هي أهداف ثورة تونس، وأهداف مجمل الثورات والحركات الاحتجاجية في المنطقة، وهي الأهداف التي هربت منها جميع القوى وكل الفاعلين السياسيين على الساحتين، التونسية والإقليمية، بمن فيهم قيس سعيد وحركة النهضة، باعتبارهم أبرز أقطاب الأزمة السياسية التونسية الراهنة.

لم يكن نجاح قيس سعيّد تعبيراً عن ارتباطه بمشروع الثورة، بقدر ما عكس رفضاً شعبياً واضحاً لمجمل المسار السياسي الرسمي، وهو ما تؤكّده حركة الشارع الاحتجاجية المستمرة

كما يجب أن نستذكر كيف حاول الشارع التونسي التعبير عن رأيه بأداء الفاعلين السياسيين، قبل انتخابات عام 2019 وما تلاها من مشاهد احتجاجية. إذ عاقب الشارع التونسي غالبية القوى السياسية التي تصدّرت المشهد السياسي بعد الثورة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتعاقبة، لنشهد تراجع قوة حركة النهضة البرلمانية من 89 مقعداً في انتخابات 2011، إلى 69 مقعداً في 2014، وتبعها حصولها على 52 مقعداً فقط في انتخابات 2019. كما تجلى ذلك في نتائج الانتخابات الرئاسية للعام 2019، التي شهدت هزيمة مدوّية لجميع القوى السياسية التقليدية، استفاد منه قيس سعيّد لتصوير نفسه جزءاً من حركة الشارع الغاضب والمتمرّد على مجمل المنظومة المسيطرة.
وبالتالي، لم يكن نجاح سعيد تعبيراً عن ارتباطه بمشروع الثورة، بقدر ما عكس رفضاً شعبياً واضحاً لمجمل المسار السياسي الرسمي، وهو ما تؤكّده حركة الشارع الاحتجاجية المستمرة بعد انتخاب سعيّد في التعبير عن رفضها مجمل المسار السياسي ومجمل أركانه، لا بل شهدنا تصاعداً في الحركة الاحتجاجية الشعبية بعد انتخابات 2019، على الرغم من المعوقات القانونية العديدة المفروضة بعد انتشار وباء كورونا. وعليه، بات من الواضح تناقض أهداف قيس سعيّد وحركة النهضة من ناحية مع أهداف الشارع، والثورة التونسية عامة من ناحية ثانية، الأمر الذي يتطلّب تسليط الضوء عليه، بدلاً من تسليط الضوء على تفاصيل الصراع داخل المنظومة المسيطرة، فذلك يعني أنّ تونس، وثورتها تحديداً، تمر في مرحلة خطرة نتيجة عجز القوى الشعبية الثائرة والمحتجّة عن رسم معالم برنامجها الثوري، وبناء هياكلها الثورية المعنية بتحقيق برنامج الثورة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، أي تحقيق كامل مهام الثورة الديمقراطية.

لا يعني الشعب التونسي نجاح سعيّد أم فشله في الهيمنة على قوى الثورة المضادّة، بقدر ما يعنيه ويعني مجمل الشعوب الثائرة والمحتجّة في المنطقة نجاحه في استعادة زمام الأمور

إذاً، لم تستكمل ثورة تونس طريقها الثوري بعد نجاحها في إسقاط رئاسة بن علي، نتيجة عوامل عديدة لن يذكرها هذا المقال، الأمر الذي أتاح المجال أمام قوى النظام القديم والقوى ذات الهياكل التنظيمية التقليدية والقوى ذات الإمكانات المالية الكبرى، كي تتصدّر المشهد السياسي، وتحرف مسار تونس من طريقها الثوري الجذري نحو طريق التفافي حافظ على جوهر نظام بن علي التسلطي والريعي، بعد تعديلاتٍ شكليةٍ ذات مظهر ديمقراطي سياسي يخدع العين، لعب قيس سعيد وحركة النهضة دوراً بارزاً في مرحلته الأخيرة. أي لا بدّ من أن ينطلق موقفنا اليوم من مجمل هذه الحقائق أولاً، وبما يخدم مصالح ثورة وشعب تونس وأهدافهما، وهو ما يتطلّب تحريض الكتلة الاجتماعية التونسية من أجل مجابهة جميع أقطاب الصراع السياسي التونسي الدائر حول هوية الطرف المسيطر بينهم، وتصويب البوصلة الثورية نحو استكمال مشروعها الثوري اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، لا سيما في ما يخصّ صياغة برنامجها الثوري، وبناء هياكلها الثورية المعبرة عنها والصاعدة من رحم الحركة الثورية التونسية.
إذاً، تشهد تونس مساراً انقلابياً قديماً نسبياً بدأ منذ انحراف البرلمان والرئاسة ومجلس الوزراء والقوى السياسية الفاعلة عن أهداف الثورة والشعب التونسي في بدايات الـ2012، بل ربما في نهايات الـ2011. أما انقلاب اليوم التشريعي أو السياسي فهو انقلابٌ داخل انقلاب، أي انقلابٌ داخل منظومة المنقلبين على الثورة، انقلابٌ بغرض الهيمنة والسيطرة على قيادة قوى الثورة المضادّة، لذا لا يعني الشعب التونسي نجاح سعيد أم فشله في الهيمنة على قوى الثورة المضادّة، بقدر ما يعنيه ويعني مجمل الشعوب الثائرة والمحتجّة في المنطقة نجاحه في استعادة زمام الأمور والتخلص من هيمنة قوى الثورة المضادة عبر الاستفادة من الصراع الحاصل بينها؛ المتمثل ظاهرياً بصراع قيس سعيد وحركة النهضة، والذي يخفي القوى النافذة أمنياً وعسكرياً واقتصادياً؛ وعبر استكمال النضال والبناء الثوري، ميدانياً وتنظيمياً وبرامجياً أيضاً.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.