تعاطي الإنسانية الغربية مع الهجرة غير الشرعية

في تعاطي الإنسانية الغربية مع الهجرة غير الشّرعية

20 يوليو 2023
+ الخط -

وقّعت تونس اتفاقية شراكة بشأن الهجرة غير الشّرعية، مرسّمة، بذلك، وضعاً تريد أوروبا منه أن تكون المنطقة المغاربية سداً منيعاً يحول دون ما تسميهم جحافل المهاجرين المتدفّقين نحو سواحلها من الضفة الجنوبية للمتوسّط، وهي فرصة للحديث عن مأساة السفينة التي غرقت قرب السواحل اليونانية منذ أكثر من شهرين، وكانت معبّرة عن التوجّه الإنساني والحضاري للغرب تجاه مأساة إنسانية، ساهم في إيجادها بأكثر من وسيلة بمرجعية التّاريخ والتعامل الذي حظيت به المنطقة والقارّة الأفريقية، بصفة خاصة، وأدّى إلى ما نراه، اليوم، من مآسٍ.

شهدت السّواحل اليونانية، منذ شهرين، حادثة مأساوية تمثّلت في غرق مئات المهاجرين غير الشّرعيين، ما أثار زوبعةً من التّباكي الغربي على وسائل الإعلام. لكن، ما يجب أن نُقرّ به، هنا، أنّ الغرب أضحى لا إنسانياً إلى درجة أنّه لم يعد يلقي بالاً لقوارب الموت، وهي تطالب بالنّجدة التي لم تعد تصل إلا بعد فوات الأوان، وهو ما يثير أسئلة تبحث لها عن أجوبة، تحاول المقالة طرحها.

يحاول الغرب الظّهور بمظهر النّاشر لخطاب معياري أخلاقي، مضمونه الدّعوة إلى إعلاء كرامة الإنسان والحفاظ على منظومة حقوقه. لكن، عند الغوص عميقاً، في ذلك الخطاب، نجده موجّهاً إلى الإنسان الأبيض الغربي، وليس إلى بقيّة من هم دون الغرب في الحقوق والكرامة، لأنّ ذلك الخطاب أصبح لا يتوانى عن الحديث عن حقوق وكرامة ولكن بعيداً عن غير الغرب. وإذا جرى تغييب تلك الكرامة والحقوق بحروب أو صراعات أو استبداد، فإن الغرب يُعلي، هنا، مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية على كلّ ما دونها من مصالح. وهذا هو لبُّ المسألة أو مربط الفرس، كما يقولون.

خطاب الغرب الأخلاقي موجّه إلى الإنسان الأبيض الغربي، وليس إلى بقيّة من هم دون الغرب في الحقوق والكرامة

نحتاج لتوطئةٍ بهذه العبارات، ذلك أنّ ما جرى، منذ حوالى الشهرين، من غرق لسفينة، انطلقت من طبرق اللّيبية بمهاجرين غير شرعيين، متّجهة صوب أوروبا، يطرح أسئلةً كثيرة، قد يكون أولها أنّه مع أهمّية المتوسّط في الاستراتيجية العالميّة للتّجارة بوجود أساطيل القوى الكُبرى لا يغيب عن راداراتها، البتّة، حركة أيّة سفينة مُبحرة من أيّ مكان للمتوسّط، أيّاً كانت طبيعة إبحارها أو ما تحمله من بضائع، فإنّ عملية الغرق تبدو غريبة، نوعاً ما، مع هذا الكمّ الهائل من تكنولوجيا التتبُّع والرصد لحركات السُّفُن في أهمّ ممرٍّ بحري تجاري، عالمياً.

ثمّة سؤال آخر يتعلّق بوجود "فرونتكس"، قوة التتبُّع الأوروبية للسُّفُن التّي تقلّ مهاجرين. في المتوسّط، تترصّد لكلّ حركة من موانئ الانطلاق وتقوم على منعها من الرّسو في الموانئ الأوروبية. ولهذا، استعان ويستعين المهرّبون للمهاجرين بقوارب صغيرة أو متوسّطة تنطلق، ليلاً، من نقاطٍ محدّدة من السّواحل الجنوبية للمتوسّط. ويصعب رصدُها محمّلة بمئات من البشر الفارّين من الأزمات والفقر، وتقوم قوات "فرونتكس"، بمساعدة من بعض طواقم البحرية من بلدان الجوار الجنوبي للمتوسّط، على تتبُّع تلك السُّفُن التي لا يمكن أن تقترب من المياه الإقليميّة ثمّ السّواحل الشّمالية للمتوسّط، من دون أن يكون لـ"فرونتكس"، ثمّ سلطات البلدان الأوروبية (إسبانيا واليونان وإيطاليا، بصفة خاصّة)، علم بتلك التّحرُّكات، إمّا لوقفها أو إعادتها إلى نقاط الانطلاق، بالاتّفاق من بلدان جنوب.

من ناحية ثالثة، مما يريبنا أنّ عدد السُّفُن التي غرقت، أو قاربت من الغرق، يرتفع عددها مع حلول فصل الصّيف الذي تزداد فيه رحلات القوارب الحاملة للمهاجرين غير الشّرعيين، ردعاً للمهرّبين وللمهاجرين، على حدّ سواء، وتستخدم فيها "فورنتكس" وسُلُطات البلدان الأوروبية، المعنيّة باستقبال تلك الجحافل من المهاجرين، كلّ ما أوتيت من وسائل أبانت عنها بعض البلدان في تعاملها مع السُّوريين، من قبل، وتعاملت بها، بصفة خاصّة، اليونان المعروفة بتشدّدها مع المهاجرين، والسّفينة التي غرقت، للمصادفة، أو للتّخطيط المسبق، قبالة سواحل اليونان وليس في مكان آخر، تأكيداً لما جرى ذكره، وحاولت صحفٌ أوروبية التحقيق للكشف عن تفاصيله.

تباكٍ أوروبي يكذّب كلّ الخطاب الأخلاقي والمعياري بشأن إعلاء الإنسان وكرامته، إضافة إلى منظومة الحقوق والواجبات

هناك تخمين رابع أبرزته رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، بتعدُّد زياراتها، أخيراً، لتونس، إضافة إلى ما انبثقت منه اجتماعات وزراء الدّاخلية الأوروبيين، في بروكسل، الأسبوع الماضي، حيث تمّ الرّبط بين استقرار المهاجرين والمساعدات الاقتصادية لتونس. وقد يكون غرق السّفينة من قبيل الضّغط على الدُّول التي تنطلق منها لتزيد من حجم تعاونها في المسألة، أو تنطلق في عملية احتواء الظّاهرة بالوسائل الأمنية والاقتصادية، إن لزم الأمر، ويكون ذلك بمساعداتٍ أوروبية ليصبح الأمر مجرّد مناولة أمنية واقتصادية مغاربية لصالح الاتّحاد الأوروبي، ولو على حساب أرواح تُزهق غرقاً، لإبراز مدى الإصرار الأوروبي على وجوب إنهاء الظّاهرة جذرياً بالوسائل التّي تليق، وفق إدراكها، طبعاً.

لم تستخدم هذه المقالة عبارة إغراق السّفينة، بل حافظت على العبارة التي وردت في الإعلام الأوروبي، أي غرق السّفينة، إلا أنّ تخميناتٍ أتينا على ذكر بعضها تفيد، بلا ريب، بأنّ ثمّة تخطيطاً أوروبياً للتّعامل المتشدّد مع القضيّة. ولعلّ تزامن برمجة إسبانيا، رئيسة الاتّحاد الأوروبي، للفصل الثّاني من العام الجاري وفرنسا، برلمانياً، لمشروع قانونٍ خاصّ بالهجرة، على المستويين، الأوروبي والفرنسي، عامل محفّز على استخدام عبارة إغراق، ولو بطريقة غير مباشرة بالعلم المسبق للغرق، وعدم تقديم مساعدة، وهو أمر سبق وقوعه ويتكرّر مرّة أخرى، مع ضحايا أكبر عدداً، للأسف، مع العلم أنّ دولاً أوروبية كثيرة شدّدت من قوانينها وتشريعاتها لتتناسب مع الاستراتيجية الأوروبية الجديدة في أمننة إشكالية الهجرة والتّعامل معها على أنّها تهديد وجودي للهويّة الأوروبية ولاقتصادها، أيضاً.

نصل، الآن، إلى التّباكي الأوروبي في الإعلام وازدواجية التّعامل مع واقع إشكالية يمكن أن تُوجد لها عشرات الحلول بعيداً عن الأمننة والتّشدُّد، بل تصعيدها لتصبح تهديداً استراتيجياً، وهو تباكٍ يكذّب كلّ الخطاب الأخلاقي والمعياري بشأن إعلاء الإنسان وكرامته، إضافة إلى منظومة الحقوق والواجبات.

دول أوروبية كثيرة شدّدت من قوانينها وتشريعاتها لتتناسب مع الاستراتيجية الأوروبية الجديدة في أمننة إشكالية الهجرة

متابعة نقل الإعلام وحديث النُّخبة المثقّفة والإعلامية الأوروبية عن غرق السّفينة، يجعلنا نتأكّد ممّا سبق الحديث عنه، ولذلك تداعيات وخيمة، ذلك أنّ تصدير ذلك الخطاب المعياري اللاإنساني واتباعه بالممارسة المتشدّدة ينتج منه رفع الحرج عن الاستبداد، بقصد إدامته، من ناحية، ولتعظيم صورة أوروبا التي لا تهتم إلا بشعوبها وبقيم المعيار المزدوج، في كلّ المجالات، من ناحية أخرى، وهو ما يزيد وتيرة عدم الرّضا الدّاخلي في الضفّة الجنوبية على الأوضاع الاقتصادية، ويرفع من إرادة المغادرة، غير الشّرعية، حتماً، نحو أوروبا مع وجود عصابات تهريب البشر، لتكون الصُّورة، مرّات ومرّات، ليس غرق سفينة، بل إبداع عبارة أضحت عادية، عندنا، وهي قوارب الموت وجثث طافية على سطح البحر يعثر عليها الصيادون ونشاهد صورها، يومياً، على وسائل التّواصل الاجتماعي.

تلك هي أوروبا، وذلك هو خطابها المعياري الذي خدعتنا به فترات صدّرت، من خلاله، صورة الكرامة الإنسانية. وفي المقابل، غضّت الطّرف عمّا كان يجري عندنا من مخلّفات التّخلُّف الاقتصادي من جرّاء الاستعمار، ثمّ، في إطار ما أسماه الرّاحل سمير أمين، رائد دراسات التّبعية، المركز والمحيط، أدامت علينا التّخلُّف. وكانت نتائج ذلك، على المستوى الاجتماعي، توسُّع دائرة حزام الفقر ودوافع المغادرة، بعد إغلاق الفضاءات الشّرعية للهجرة، للوطن نحو عوالم أرحب، لكسب لقمة العيش، حتى مع خطر الغرق أو القتل... العمد.