تركيا.. فرصة صغيرة وخطر كبير

تركيا.. فرصة صغيرة وخطر كبير

30 مارس 2022
+ الخط -

وضع الغزو الروسي لأوكرانيا تركيا في موقف دقيق وخطر، وفرض عليها التحرّك الحذر في ضوء علاقاتها التجارية والعسكرية مع روسيا وأوكرانيا من جهة، والعسكرية والأمنية مع طرفي الصراع الروسي الغربي من جهة أخرى، فالغزو الروسي، ببعديه الجيوسياسي والجيواسراتيجي، ضيّق هوامش تحرّكها وقلّص خياراتها وفرض عليها التصرّف بدقة وحذر، والسعي إلى لعب دور وسيط في حل النزاع بين روسيا وأوكرانيا عبر التحرّك، السياسي والدبلوماسي، والعمل، في الوقت نفسه، على تعزيز موقعها في التحالف الغربي على خلفية توجّسها من طموحات روسيا وتطلعاتها الجيوسياسية والجيواستراتيجية.

لم تكن تركيا على وفاقٍ مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي في ضوء ما تعدّه تمييزا وسوء معاملة، إن على صعيد تزويدها بأنظمة دفاع صاروخية وطائرات متطوّرة، أو على صعيد تعقيد عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، حيث أمضت سنوات طويلة في المفاوضات من دون تقدّم ملموس. هذا مع عدم توقّف الأمر عند حدود عدم تزويدها بالأسلحة المطلوبة، بل تعدّاه إلى الاعتراض على تزوّدها بها من مصادر أخرى، كما حصل مع صفقة الصواريخ الصينية، وعلى سياستها الداخلية، قضايا الحرّيات وحقوق الإنسان. علما أن دولا في الاتحاد الأوروبي عارضت انضمامها من منطلقٍ ديني، باعتبار الاتحاد تجمّعا مسيحيا، يتعارَض مع المعايير والقيم الديمقراطية والعلمانية. وقد وجدوا في عقد صفقة الصواريخ الروسية إس 400 ضالتهم من أجل التشهير بسياساتها، بما في ذلك انخراطها في تفاهمات مع روسيا بشأن الملف السوري ومشاركتها في مسار أستانة، ومعاقبتها بإخراجها من المشاركة في صناعة الطائرة الأميركية، إف 35، طائرة متطوّرة من الجيل الخامس، ووقف عملية تسليمها طائراتٍ منها، كانت قد تعاقدت عليها ودفعت مليارا ونصف المليار دولار من ثمنها، وربطهم العودة عن ذلك بعودتها عن قرار شراء الصواريخ الروسية من دون وعد بتزويدها بمنظومة صواريخ باتريوت التي كانت قد طلبتها من قبل.

عزّز الغزو الروسي أوكرانيا، واحتمال تمدّده خارج حدود الأخيرة، موقف تركيا داخل حلف الناتو، في ضوء موقعها الجيوسياسي الهام، بالقرب من ساحة المعركة، وامتلاكها سواحل طويلة على البحر الأسود وسيطرتها على مداخله عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وامتلاكها ثاني أكبر جيش في الحلف بعد جيش الولايات المتحدة، وقد تجلى ذلك في موقف الأخيرة منها، حيث أوفدت نائب وزير خارجيتها، ويندي شيرمان، إلى أنقرة، للتباحث في التطورات على الساحتين، الأوكرانية والإقليمية؛ وإجراء الرئيس الأميركي، جو بايدن، اتصالا هاتفيا مطولا بالرئيس التركي، أردوغان، معلنا استعداده لفتح صفحة جديدة في العلاقات، منهيا فترة فتور وبرود في العلاقات بين الجانبين، على خلفية إدانة بايدن سياستي أردوغان، الداخلية والخارجية، وتثمين الإدارة الأميركية المساعدات الإنسانية التركية لأوكرانيا. وعقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اجتماعا مع أردوغان على هامش قمة الحلف في بروكسل، وحديثه عن "فرصةٍ لتوضيح استراتيجي لدور تركيا في علاقتنا داخل الحلف الأطلسي"، على الضد من الموقف قبل عام، حيث دعت دول في الحلف إلى تجميد عضوية تركيا في الحلف، على خلفية صفقة الصواريخ الروسية، وإعلان دول التحالف الغربي عن استعدادها لإعادة تفعيل المشروع التركي الفرنسي الإيطالي لصناعة منظومة صواريخ سامب - تي، التي تعتبر بديلا لمنظومة إس 400 الروسية، وتوافد القادة الغربيين لزيارة أنقرة للتباحث مع أردوغان.

عزّز الغزو الروسي أوكرانيا، واحتمال تمدّده خارج حدود الأخيرة، موقف تركيا داخل حلف الناتو 

كما فتح الغزو الباب أمامها لتفعيل خططها في مشروع نقل غاز شرق المتوسط عبر أراضيها إلى الدول الأوروبية، في ضوء بحث الأخيرة عن بديل للغاز الروسي، وتخلي الإدارة الأميركية عن دعم مشروع "إيست ميد" لنقل الغازين، الإسرائيلي واليوناني، من شرق البحر المتوسط إليها. وقد منحها تعزّز موقفها لدى الحلفاء الغربيين فرصة للعودة إلى المطالبة بمطالبها العسكرية والاقتصادية السابقة، عبر مطالبة الحلف برفع حظر السلاح عنها، كان فرضه عليها بعد شرائها منظومة صواريخ روسية من طراز إس 400، وخلافها مع اليونان وقبرص حول التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية شرق المتوسط، ومطالبة الاتحاد الأوروبي بتحريك مفاوضات انضمامها إليه.

ولكن الغزو وضع تركيا، في الوقت نفسه، في موقفٍ دقيقٍ وخطر مع روسيا، في ضوء المصالح المتبادلة والعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي نمت في السنوات الأخيرة، فمصالحها مع روسيا كثيرة ومتنوّعة، من استيراد الغاز عبر خط أنابيب السيل الشرقي، تحصل على 45% من احتياجاتها للغاز من روسيا، إلى أفواج السياح الروس، يزورها حوالي خمسة ملايين سائح روسي سنويا، إلى عمل مئات الشركات التركية في روسيا، مرورا بتصدير الخضار والفواكه واستيراد القمح الروسي، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 30 مليار دولار، وصولا إلى بناء روسيا مفاعلا نوويا فيها. هذا بالإضافة إلى تفاهمات سياسية وعسكرية بشأن ملفات سورية وليبيا وأذربيجان وأرمينية، وفرض عليها التحرّك بحذر شديد كي لا تغضب الجانب الروسي، وفي ذهنها تبعات القطيعة التي ترتبت على إسقاطها طائرة روسية عام 2015، حيث أوقفت روسيا التبادل التجاري والرحلات السياحية، ألحقت بها خسائر قدرت بعشرة مليارات دولار، فروسيا تمتلك أوراق قوة في مواجهتها، تبدأ من وقف التبادل التجاري والسياحة، ما ينعكس سلبا على اقتصادها المتعثر، وهي على أبواب انتخابات رئاسية مفصلية، ستجري عام 2023، إلى الضغط عليها في الشمال السوري، والتسبب في موجة هجرة سورية جديدة، خصوصا وهي تعدّ الخطط لإعادة اللاجئين السوريين إلى الشمال، وتوظيف ذلك في تحسين صورة النظام واستعادة شعبية أردوغان.

وضع الغزو تركيا في موقفٍ دقيقٍ وخطر مع روسيا، في ضوء المصالح المتبادلة والعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية

هل يشكّل استهداف قوات النظام السوري مدرعةً تركية في ريف حلب الغربي وقتل وجرح عدد من الجنود الأتراك يوم الأحد 27 مارس/ آذار الجاري، رسالة تحذير روسية؟ وتستطيع روسيا عرقلة الاتفاقات الهشّة لوقف إطلاق النار بين حلفاء الروس والأتراك في ليبيا وبين أذربيجان وأرمينية، وتقويض الصورة التي كوّنها أردوغان عن نفسه لدى الرأي العام التركي رئيسا قادرا وكفؤا. لذا اختارت التوازن بين الموقفين، الروسي والغربي، حيث دانت الغزو، ووصفته، على الضد من التوجّه الروسي، بالحرب، وأعلنت تمسّكها بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، وصوّتت مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دان الغزو الروسي، وقدمت لأوكرانيا مساعدات أمنية واقتصادية ومالية وإنسانية، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الحربية الروسية، من جهة، ورفضت، في الوقت نفسه، الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، وعزل الثقافة الروسية، وواصلت شراء النفط والغاز الروسيين، ودعت الأوليغارش الروس إلى الاستثمار في تركيا، وعملت على إبقاء باب الحوار مع روسيا مفتوحا، من جهة ثانية. وتوجّهت إلى تأكيد موقفها المتوازن إلى التوسّط بين روسيا وأوكرانيا فجمعت وزيري خارجية البلدين، سيرغي لافروف وديمترو كوليبا، في أنطاليا، وسعت إلى جمع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وزار وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، موسكو وكييف، بحثا عن حل سياسي، يبدأ بوقف إطلاق النار، يضمن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها وأمن روسيا وسلامتها، والإعلان عن استضافتها مفاوضات روسية أوكرانية.

يبقى أن الحياد أو شبه الحياد أو الحياد الإيجابي، وفق توصيفاتٍ متباينةٍ لمحللين سياسيين، لا ينهي الخطر الكامن في هذا الصراع على تركيا؛ ولا يوفر لها مخرجا مضمونا يحميها من الخطر، ذلك أن تمسّك طرفي الصراع، روسيا والتحالف الغربي، بمواقفهما، والتصعيد العسكري الحاصل على الأرض الأوكرانية، يثيران هواجس ومخاوف من وضع تركيا في موقفٍ حرج أكثر، فالتصعيد يدفع إلى فرز المواقف والصفوف ويضيق فرص الحياد، حيث يصبح الموقف مع أو ضد ولا خيار ثالثا. هذا بالإضافة إلى ما تنطوي عليه نتيجة الصراع من مترتبات مقلقة، فنهاية الحرب بنصر غربي ينطوي على احتمال عودة الفتور إلى العلاقات التركية الغربية، ومعاقبة تركيا على موقفها غير الحازم من الغزو الروسي، وانتصار روسيا ينطوي، هو الآخر، على خطر تغوّل روسيا على تركيا في البحر الأسود، فالأطماع الروسية في مضيقي البوسفور والدردنيل وإسطنبول معروفة؛ وقد سبق وطالبت بها خلال مفاوضات تصفية تركة السلطنة العثمانية، أو الرجل المريض، مع فرنسا والمملكة المتحدة قبل انسحابها منها بعد قيام ثورة أكتوبر 1917، وانعكاس سياسة التمدّد الروسي في دول الاتحاد السوفياتي سلبا على خطط تركيا لتوحيد العالم التركي، ربما يفسّر هذا الموقف الدقيق والحساس دعوة تركيا إلى تعزيز حلف الناتو والإبقاء على باب العضوية مفتوحا، بحيث تبقي التركيز الروسي بعيدا عنها، وتضعه في موقف المحتاج لموقف تركي حيادي، أو وسيط، للحوار مع الغرب.