بيادق لا حلفاء

بيادق لا حلفاء

19 يناير 2023

(حسين ماضي)

+ الخط -

يُخطئ من يعتقد أن لحزب الله حلفاء يتمتعون بإمكانية اتخاذ القرار في ملفاتهم على مستوى الدولة، مثلما يفعل هو في الملفات التي تخصّه. كما أن الخطيئة الكبرى تتمثّل في اعتقاد بعض القوى أن حزب الله سيترك لها المجال كي تقرّر، أو تتصرّف، على نحوٍ يمكن ألا يصبّ في مصلحته أو استفادته بشكل من الأشكال. على سبيل المثال، ينفرد حزب الله وحركة أمل في التقرير بأي شأن أو منصب أو استحقاق يخصّ الطائفة الشيعية، وإلا لوّح بورقة الميثاقية وأدخل البلاد في متاهةٍ لا تنتهي، كما فعل في السابق. في حين أن حزب الله وحركة أمل يقرّران، في الشاردة والواردة، في بقية الملفات والاستحقاقات الخاصة ببقية الطوائف، وفي مقدمتها استحقاقا رئاستا الجمهورية والحكومة.

وقعت معظم القوى والشخصيات التي حاولت التفاهم مع الحزب في هذه المعمعة. بدايةً من رفيق الحريري، ولا سيما في المرحلة التي تلت الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والتي انتهت باغتياله عام 2005، وتحميل المسؤولية لبعض أفراد الحزب، وفق ما حكمت المحكمة الدولية الخاصة بالجريمة. كما تكرّرت النتيجة نفسها في مرحلة "التعايش" الثانية، حيث استفاد حزب الله من سعد الحريري إلى حين انتهاء قدرة الأخير على تغطية الحزب والمشروع الإيراني من خلفه.

على المنوال ذاته، تعامل حزب الله مع ميشال عون وصهره جبران باسيل. لقد وصلت البلاد بسبب تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر إلى فتراتٍ ممتدّة من الفراغ المنظّم، كانت إما بسبب إعاقة الحزب والتيار آلية تكليف رؤساء حكومات لا يكونون على هواهم، أو استمرار سياسة إنتاج الفراغ في عملية التشكيل لاسترضاء باسيل بتوزيره، أو لمحاولات تجميد البلد بغية الإتيان بعون رئيسًا للجمهورية. فهل كانت هناك جمهورية، بعد كل التعطيل والفراغ، لكي يكون عون رئيسها؟ وهل استفاد عون، وصهره باسيل، وحقّقا ما كانا يطمحان إليه، بعدما عاشا جحيم الحرب الباردة مع نبيه برّي، وها هما يتحمّلان نتائج هذه المواجهة حتى اللحظة؟ علمًا أن ما يصحّ لبرّي في حسابات حزب الله، لا يصحّ لغيره، فهو الحليف الدائم لأسباب مذهبية لا يخاطر الحزب بها، وخصوصًا أنها الطريقة الوحيدة لإطباق سيطرته على الطائفة. فهل استفاد عون، وصهره، من كل الفراغ الذي طاول عهده، والذي تقاطعا هما والحزب على إحداثه؟ وهل يستفيد باسيل اليوم من العقبات التي يضعها الحزب أمام توليه رئاسة الجمهورية، في سعي الحزب إلى المحافظة على نوع من التوازن بين باسيل وسليمان فرنجية بشكل يحفظ موطئ قدم له في الساحة المسيحية، فبالتالي اكتفى الحزب مما كان باسيل يستطيع تقديمه؟

في حين أن مشروع حزب الله السياسي يوظّف لبنان في مشروع إقليمي، ينصرف الآخرون إلى مشاريع الاستمرار في نهب الدولة

هذه وغيرها من أسئلة تطرح نفسها، بعد أن نخرج عن الإطار الشرعي للعمل السياسي المتمثّل بمحاولة تحقيق الأهداف المشتركة عبر السعي إلى صوغ تحالفاتٍ وتفاهماتٍ مصلحية تخدم هذه الغاية، وتكون الأطراف السياسية خارجها قادرة على تحقيق مصلحتها الخاصة، فالسبب الذي يسمح للحزب السلوك بهذا الشكل التكتيكي هو لأنه الحزب السلطوي الوحيد الذي يمتلك استراتيجيّة.

ففي حين أن مشروع حزب الله السياسي يوظّف لبنان في مشروع إقليمي، ينصرف الآخرون إلى مشاريع الاستمرار في نهب الدولة، بغرض تحقيق ثروات وإيجاد حيثيات أشبه بالمافيات، وليس بالتنظيمات السياسية. مشاريع تتعارض مع الممارسة الدولتية والسلوكيات التي يُفترَض أن يتمتع بها من يتحمّلون مسؤولية الناس والبلد، فالحزب يعلم شروط المعادلة جيدًا، هو يتقاسم الشؤون الداخلية مع بقية القوى السلطوية، يشاركهم في استنفاد الدولة وثرواتها، إلا أنه ينفرد بالقرارات الاستراتيجية، وبالخطط الإقليمية والمعادلات الكبرى، وبصراع المحاور القائم.

كما أنه ليس خافيًا أن حزب الله هو قوة النظام اللبناني الضاربة. وقد تجلّى ذلك في مواجهته محطّات سياسية وشعبية لبنانية مختلفة، خصوصًا انتفاضة 17 تشرين (2019)، التي شارك أغلبية اللبنانيين فيها، بمن فيهم القاعدة الشيعية في الجنوب والبقاع والضاحية.. إلخ. الانتفاضة التي عمل الحزب، بشكل طائفي منظّم، وبشكل إعلامي تحريضي أمني مكثّف، على تفريغها من الوجه الشيعي بدايةً، وعلى القضاء عليها بغرض المحافظة على هذا النظام الطائفي الفاسد والمهترئ، وفق التوصيف الذي ورد على لسان قياداته وأمينه العام مرّات عدّة، فهم لا يتنبّهون إلى أن توصيفا كهذا يدينهم هم قبل غيرهم، لأنه يؤكّد، في منطقه الداخلي، على أن حالة الفساد والاهتراء هي التربة الخصبة التي نشأ الحزب داخلها، وها هو ينشط فيها، على غرار نشوء ونشاط بقية مليشيات المحور في العراق واليمن وسورية.

حزب الله هو قوة النظام اللبناني الضاربة، وتجلّى ذلك في مواجهته محطّات مختلفة

المشروع الإيراني، كما كل مشروع يسعى إلى أن يكون إمبراطوريًا، يقوم على تفتيت الكيانات وتدميرها وتعطيلها بهدف فرطها، ولاحقًا هضمها، ولا يهدف إلى إيجاد خطط لاستنهاضها. بل كل مسعاه هو إنتاج بيادق وتابعين لا أنداد مقرّرين ومستقلين، وخصوصًا أنها أسرع وأنجع طريقة لتحويل كل غاية إلى وسيلة وأداة طيّعة يستخدمها كيفما يشاء، سواء على مستوى الأفراد أو القضايا أو المؤسسات أو الدول والكيانات.

بالتالي، كل ما ورد أعلاه لا يعفي بقية الأطراف من المسؤولية، خصوصًا أنها ارتضت أن تكون بيدقًا بيد قوّة سياسية وعسكرية تملك من السلاح والمال والعصبية ما يتخطّى الدولة، من خلال اعتقادها أنها قادرة على تجيير هذه القوّة لفرض معادلاتٍ تسمح لها بالاستفادة من عملية النهب المنظم للدولة، فالأمر لا يؤكّد إلا على مسؤولية الجميع، وإن كانت مسؤولية متفاوتة تبعًا لتفاوت طبيعة مراكز القوّة التي ترسم حدودا متداخلة بين من يقرّر ومن ينفّذ، وبين من يحمي ومن يحقق أمنيات غيره في سعيه الموهوم لتحقيق أمنياته الخاصة، وها هو اليوم يدفّعها فاتورتها من جيبه الخاص.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية